الشيخ محمد توفيق المقداد
بين الفينة والأخرى تطالعنا وسائل الإعلام بكلام جديد عن
موضوع "الاستنساخ" الذي يعتبر ثورة علمية في مجال الولادة والإنجاب، نتيجة أنه يتم
من خلال تلقيح خلايا ببعضها البعض دون الرجوع إلى عملية التلقيح الطبيعي لنطفة
الرجل مع بويضة المرأة، وآخر ما ينشر في هذا الموضوع هو الحديث عن "ولادة طفلتين
مستنسختين، من امرأتين تنتميان إلى طائفة تطلق على نفسها اسم (الرائيليين)، وكان قد
أسس هذه الطائفة شخص يُسمّى (كلود فوريلهون) ويدعي بأنه قابل مخلوقات فضائية عام
"1973م" ويدَّعي بأن تلك المخلوقات الفضائية هي التي أوجدت الحياة البشرية على
الأرض من خلال الحمض النووي والهندسة الوراثية، وخلقوا الحياة من العدم ومن التراب.
وقبل الحديث عن الاستنساخ لا بد من الرد على هذه المقولة التي ذكرها مؤسس هذه
الطائفة الرائيلية لأنها تحوي أفكاراً أقل ما يقال فيها أنها "هرطقة" و"رجم بالغيب"
و"كلام لا دليل عليه".
والرد هو التالي: إن الحياة البشرية لم تنتج عن المخلوقات الفضائية التي ذكرها
مبتدع تلك الطائفة عن طريق الحمض النووي والهندسة الوراثية، وإنما الذي خلق الإنسان
هو اللَّه سبحانه وتعالى، وهو وحده القادر على الخلق والتكوين، وقد ذكر القرآن
الكريم المراحل التي يمر بها الإنسان منذ انعقاد نطفته إلى أن يخرج إلى الدنيا ثم
إلى حين خروجه منها بالموت، وقد قال تعالى في سورة الحج في الآية الخامسة
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ
مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ
إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ..﴾،
ويقول سبحانه في سورة المؤمنون من الآية "12" إلى "16"
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ
جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا
الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ
أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
﴾.
هذه الآيات الكريمة التي تبين بتفصيل ودقة كل المراحل التي يمر بها الإنسان تنفي
مقولة أن الكائنات الفضائية هي التي أوجدت الحياة البشرية على الأرض، فضلاً عن أنه
لم يثبت إلى الآن وقد لا يثبت أبداً أن هناك حياة خارج كوكب الأرض مع كل المحاولات
التي قام بها العلم والعلماء من خلال غزوهم للفضاء ووصول مركباتهم إلى كواكب بعيدة
كالزهرة والمريخ وغيرهما. فضلاً عن هذا نجد أن القرآن الكريم يصرح بشكل واضح أن
اللَّه هو الذي خلق الإنسان ليكون خليفته في الأرض من خلال عبادته له وإعمار الأرض
بالنحو الذي أراده اللَّه، وقد قال القرآن الكريم في سورة البقرة من الآية "30" إلى
الآية "33"
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ
فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُون﴾.
مضافاً إلى أن القول بأن الحياة الإنسانية وجدت من العدم أو من التراب فهذا يعني في
معتقدنا الإسلامي والمعتقدات الإلهية عند كل الأديان أن الإنسان بعد الموت لن يذهب
إلى أي مكان، وكل ما في الأمر أنه سينتهي ولن يكون هناك بعث ولن يكون هناك حساب ولن
يكون هناك جنة ولا نار، وهذا بذاته دعوة إلى جعل الحياة حياة عبثية لغوية لا قيمة
لها ولا وزن، وأن الإنسان عندما يموت سواء أكان خيِّراً أم شريراً فهما على حد سواء،
ولن يعاقب المسيء على إساءته ولن يُجازى المحسن على إحسانه، وهذا خلاف كل الشرائع
السماوية المؤمنة بالبعث وبالحياة بعد الموت وبالجنة والنار.
من كل ذلك نقول إن تلك "الترهات" و"الأباطيل" التي يدَّعيها رئيس طائفة "الرائيليين"
ليس لها أساس من الصحة وإنما هي تخمينات وظنون لا تصمد أمام الواقع وأمام النقد
البنَّاء، وأمام الحقائق الموجودة في كل الكتب السماوية، ويمكن القول صراحة أن هذه
الطائفة هي فرع من "الدهريين" الذين كانوا عبر العصور ويؤمنون وهماً وانحرافاً أن
لا شيء بعد هذه الحياة الدنيا وشعارهم كما يقول اللَّه في القرآن
﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ
﴾. نكتفي بهذا المقدار من الرد على هذه الطائفة الرائيلية فقط
حتى لا يحصل تشويش في أذهان المؤمنين الملتزمين، وننتقل للكلام عن الاستنساخ
المعتبر اليوم ثورة علمية وقفزة نوعية وهو مثار جدل علمي وقانوني وأخلاقي وأدبي
ونقول بداية: في عصور ما قبل عصر العلم والاكتشافات هذا كان التناسل للبشر يتم عبر
التواصل الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة، حيث كان يتم تلقيح البويضة النازلة من
رحم المرأة بنطفة الرجل التي أفرغها، ثم تمر تلك النطفة الملقحة بكل المراحل التي
ذكرناها في الآيات السابقة والتي تستمر تسعة أشهر على الأغلب ويخرج إلى الدنيا جنين
صغير يكبر شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح متمتعاً بكل القوى الجسدية والعقلية التي تجعله
إنساناً كاملاً، ومنهم من لا يتمكن من اجتياز كل تلك المراحل فتجهض المرأة الجنين
قبل ولادته لسبب أو لآخر، وهذا الأمر هو الذي كانت عليه عملية الإنجاب إلى أن وصلنا
إلى عصر استطاع فيه الإنسان من خلال الملاحظات والاكتشافات العلمية أن يتوصل إلى
طريقة للإنجاب هي "التلقيح خارج الرحم" حيث تؤخذ النطفة من الرجل والبويضة من
المرأة وتتم عملية التلقيح خارج الرحم، وبعد نجاح عملية التلقيح تتم إعادة البويضة
الملقحة إلى رحم المرأة لتستمر في نموها وتكاملها حتى الوصول إلى لحظة الولادة
للجنين، ولكن بما أن طموح الإنسان العلمي والمعرفي هو حاجة فطرية في الإنسان
سعياً لاكتشاف ما يجهله في هذا الكون توصل العلماء إلى استنتاج أن كل عناصر التلقيح
الموجودة في نطفة الرجل أو بويضة المرأة موجودة في خلايا الجسم العادية، وهذا
يعني أن العلم يمكن أن يستفيد من الخلايا من أجل إتمام عملية التلقيح ثم زرع الخلية
الملقحة في رحم امرأة إلى أن يصبح جنيناً كاملاً وتتم الولادة بشكل طبيعي كما لو
حصلت عملية التلقيح في الرحم بالشكل الطبيعي المتعارف، أو من خلال التلقيح الصناعي
وهذه العملية بما أنها قادرة عبر طريقة علمية معينة من إنتاج مولود مشابه لمن أخذت
منه أو منها الخلية سميت ب"الاستنساخ" تمييزاً لها عن الطرق الأخرى للإنجاب.
وقد أخذت مسألة "الاستنساخ" حيزاً واسعاً من النقاش فاعتبرها البعض أنها تمثل تحدياً
للخالق في الخالقية والربوبية، واعتبرها البعض مسألة غير أخلاقية، واعتبرها فريق
ثالث أنها نوع من التلاعب بالحياة، واعتبرها نوع رابع أنها ستؤدي إلى إنتاج سلالة
بشرية مشوَّهة خلقياً وخُلُقياً وما شابه ذلك، واستدلوا على هذا بأول عملية استنساخ
لحيوان هو "النعجة دوللي" التي أثارت ضجة عالمية في حينها لأنها كانت صدمة للبشر
كلهم آنذاك، واعتبر فريق خامس أن الاستنساخ جائز في الحيوان والنبات ولا يجوز في
الإنسان، وغير ذلك الكثير من الكلام الذي قيل حتى وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار
الاستنساخ عملاً من أعمال الشيطان لعنه اللَّه. بداية لا بد من القول إن الاستنساخ
ليس خارجاً عن القدرة الإلهية ولا يشكل تحدياً للخالق، لأن العلماء الذين يمارسون
هذا الفعل واستطاعوا كما قالوا من توليد فتاتين مستنسختين كما ذكر الإعلام العالمي
أخيراً، إنما أخذوا الخلية التي خلقها اللَّه ولقحوها بخلية أخرى، فأين التحدي في
هذا العمل؟ نعم التحدي يكون لو تمكن العلم بذاته من الوصول إلى مرحلة يخلق فيها
الإنسان ويدب فيه الروح من دون العودة إلى الخالق إلا أن هذا الأمر مستحيل عقلياً
وعملياً ولن يصل العلم إلى ذلك اليوم أبداً، لأن الحياة سر من الأسرار العظيمة
للخالق، وقد قال تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
وأما الحكم على الاستنساخ بأنه سيؤدي إلى ولادة جيل مشوه خلقياً وخُلقياً فهذا أمر
لم يحصل بعد حتى نجزم بذلك، وهذا الكلام هو نوع من الرجم بالغيب لا أكثر ولا أقل،
لأن المستنسخ وإن كان على المستوى العادي "الشكل والصورة" مشابهاً للمستنسخ منه،
إلا أن روحه ليست نفس روح المستنسخ منه، بل هي روح مستقلة لجسد مستقل وإنسان مستقل
عن غيره استقلالاً تاماً، نعم لو حصل هناك تلاعب في أثناء عملية التلقيح بأن أضافوا
إلى الخلية الملقحة جينات معينة لمخلوقات أخرى فهنا يمكن أن يحدث ما يذكره البعض من
تخوفات وما شابه ذلك، إلا أن الأصل هو أن الخلية البشرية التي يتم تلقيحها بخلية
بشرية أخرى سينتج عن ذلك ولادة إنسان حتماً طبقاً لنظرية التناسب والتناسل، وهذا
مبدأ ثابت في كل ذي حياة فلم نرَ امرأة أنجبت حيواناً ولا نجد حيواناً أنجب إنساناً.
ومضافاً إلى ذلك لا نجد في شريعتنا الإسلامية ما يشير إلى تحريم هذا العمل، خصوصاً
أن التحريم يحتاج إلى دليل وهو مفقود في المقام، وما ذُكر من التبريرات التي تحدثنا
عنها لا تنهض دليلاً على التحريم لأنها ضعيفة وواهية ومردودة بالأدلة والبراهين
القاطعة. من أجل ذلك كله نقول: إن الاستنساخ فعل مباح شرعاً ولا حرمة فيه وهو نوع
متقدم ومتطور من عملية ولادة الإنسان نتيجة قدرة العقل البشري على الإبداع
والابتكار وليس فيه مخالفة للقواعد الشرعية ولا لعملية التناسل البشري طالما أن
المولود هو إنسان عادي كغيره من سائر أفراد البشر وإن اختلفت طريقة التلقيح عنده عن
غيره ممن يولدون عبر الأسلوب الطبيعي.
وقد تم توجيه استفتاء إلى سماحة ولي أمر
المسلمين الإمام الخامنئي "دام ظله" حول جواز فعل الاستنساخ فكان جوابه هو ما يلي (إن
الاستنساخ لا بأس به بحد ذاته إذا لم يترتب عليه مفاسد جانبية، مع الاحتراز عن
المحرمات كالنظر أو اللمس للعورة عند المرأة عند إخراج البويضة منها أو عند إعادتها
إلى رحمها بعد تلقيحها بالخلية). بقي أن نلفت النظر إلى مسألة بسيطة وهي أنه لو
افترضنا أننا عندما مارسنا الاستنساخ، استنسخنا مئات أو ألوف الأشخاص عن فرد واحد
لا غير، مما قد يؤدي إلى حصول هرج ومرج في هذا الجانب فقط، هنا يمكن من خلال سن
قوانين وتشريعات قانونية تحد من عملية من هذا القبيل، وبمعنى آخر كلي يمكن القول
بأنه يمكن الاستفادة من كل الجوانب الإيجابية للاستنساخ من دون وجود موانع أو عوائق،
وإذا كان هناك سلبيات معينة يمكن ضبطها وإيقافها عبر تشريعات قانونية حتى لا يحصل
انفلات للأمور وتخرج عن السيطرة والتحكم.