الشيخ محمد توفيق المقداد
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في قصار الجُمَل قوله: "الناس أعداء ما
جهلوا"، والمراد من هذا القول أن الناس غالباً ما ترفض من دون دراسة وتمحيص في غالب
الأحيان الأفكار والمبادئ أو الاكتشافات التي يتوصل إليها بعض أفراد البشر، وذلك
بسبب الجهل أو بسبب صعوبة تَقَبُّل الفكرة المطروحة لبعدها عن المسار الفكري العام
للبشر.
إلا أن هذا الرفض الأولي لا ينبغي أن يتحكم بمسار الفكر الإنساني المبدع والخلاق،
والقادر على التوصل إلى مقامات رفيعة في مجال استكشاف الكون أو الإنسان نفسه كما
قال تعالى في القران الكريم
﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.
والفكرة التي نحن بصدد الحديث عنها هي "الاستنساخ" ومعناها العلمي وتفسيرها المادي
هو أخد خلية من رجل أو امرأة يتم تلقيحها ببويضة مأخوذة من رحم امرأة أخرى ويتم
تفريغها من العناصر الوراثية أولاً، ثم يتم تلقيحها بالخلية ثانياً عبر موجات
كهربائية متلاحقة، ثم بعد إتمام عملية التلقيح وبداية تكوُّن مبدأ نشوء الجنين تعاد
"البويضة الملقحة" إلى رحم المرأة التي أُخِذَتْ منها البويضة أو إلى رحم أية امرأة
أخرى، وتتم فترة الحمل ويخرج المولود مطابقاً للرجل الذي أُخِذَتْ منه الخلية أو
مطابقاً للمرأة إذا كانت الخلية منها.
ولا بد من الإشارة أولاً وفق المعتقد الإسلامي للروح أن المولود المستنسخ هو شبيه
في الشكل والصورة فقط للمستنسخ منه لا غير، أما الروح التي تلج وتدخل إلى جسد
الجنين في بطن أمه فهي روح أخرى لا علاقة لها بروح المستنسخ منه، ومعنى هذا الكلام
أن الاستنساخ يعطينا إنساناً مشابهاً في الشكل فقط لا غير للمأخوذة منه الخلية، لأن
الروح يستحيل استنساخها على المستوى العقائدي من الناحية الدينية، وعلى المستوى
العملي من الناحية العلمية، ولذا ورد في قوله تعالى
﴿َيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
والدليل على أن الاستنساخ هو للجسد المادي لا غير هو أن مبدأ الحساب والعقاب هو
الفعل الصادر عن الإنسان بما هو إنسان مستقل في شخصيته وروحه، ومن هنا نستنسخ شخصاً
مشابهاً لأكبر مجرمي التاريخ، لكن هذا المستنسخ قد يكون في حياته العملية من
المؤمنين الملتزمين الذين يخافون الله عز وجل، وقد نستنسخ شخصاً من إنسان مؤمن، لكن
المستنسخ قد يكون في الحياة والممارسة إنساناً فاسقاً منحرفاً، لأن الإيمان أو
الكفر أو الفسق وأمثال هذه الأمور المرتبطة بالروح ارتباطاً وثيقاً لأنها ناتجة
عنها ومتفرعة عليها ولا يمكن استنساخها، بل يستحيل على العلم مهما تطور أن يصل إلى
هذا المستوى، لأن المشاعر والأحاسيس والفكر والعقل بما هي عناصر مرتبطة بالروح لا
علاقة للاستنساخ الذي ينتج إنساناً مشابهاً مادياً للمستنسخ منه بها لا من قريب ولا
من بعيد، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى
﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا﴾،
وقوله تعالى
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾،
وكذلك قوله تعالى
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾،
وشبيه هذا الكلام يجري في التوأمين المتشابهين المولودَيْن بالتناسل الطبيعي، حيث
نرى أن توجهاتهما ليست واحدة وكذلك أفكارهما وسلوكهما وإيمانهما، فقد يستحق أحدهما
الثواب لإيمانه، والآخر العقاب لكفرانه، مع أنهما متشابهان جسدياً مئة بالمئة
أحياناً أو بنسبة تقل جزئياً عن المطابقة التامة.
وأما على مستوى انتساب الولد المستنسخ، فإن كانت الخلية مأخوذة من رجل، فهذا الرجل
هو "أبوه"، وصاحبة البويضة المفرَّغة من نواتها وعناصرها الوراثية هي "الأم"، ويجري
التوارث وسائر الأحكام المترتبة من نواتها وعناصرها شرعاً على المولود المستنسخ
وصاحب الخلية وصاحبة البويضة، وأما إذا كانت الخلية مأخوذة من المرأة، فصاحبة
الخلية هي "أمه" ولا يكون له أب في هذه الحالة، ولا بد من الاحتياط أيضاً هنا في
اعتبار صاحبة البويضة أماً له أيضاً، وتترتب أحكام النسب بين المستنسخ وبين صاحبتي
الخلية والبويضة بالكامل.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن البويضة التي نلقحها بالخلية يمكن أن ينتج عنها
إنساناً عادياً كالمتولد عبر الجماع بين الرجل والمرأة، أو كالمتولد من التلقيح
الصناعي الذي يتم خارج الرحم، ثم تعاد البويضة الملقحة بنطفة الرجل إلى رحم المرأة،
وذلك عبر تلقيح البويضة من دون تفريغها من عناصرها الوراثية الأنثوية فيكون المولود
من الخلية بهذه الطريقة غير مشابه لصاحب الخلية ولا لصاحبة البويضة، بل قد يشبه
أباه صاحب الخلية بأمرٍ ما، ويشبه أمه صاحبة البويضة بأمر آخر، وهذه الطريقة لا
نسميها استنساخاً، بل هو توالد عن طريق التلقيح الصناعي لكن من الخلية لا من النطفة
الجنسية، أو "الخلية الجنسية" كما هو المصطلح العلمي للنطفة المأخوذة من الرجل. ولا
بد من الإشارة أيضاً إلى أن الاستنساخ لا ينتج دائماً إنساناً سليماً خالياً من أي
عيب أو نقص، بل قد يحصل أحياناً أن يكون هناك ضعف في الخلية أو البويضة أو عند فترة
الحمل مما يؤدي إلى ولادة أطفال مستنسخين لكن مع تشوهات وعاهات جسدية أو قد يعاني
المولود من عاهات عقلية ونفسية كما يحصل تماماً في حالات الولادة الناتجة عن الجماع
والممارسة الطبيعية بين الذكر والأنثى، وذلك لأن عملية الخلق والتكون وتكامل الجنين
في رحم المرأة سواء أكان بالتزاوج الطبيعي أو عبر التلقيح الصناعي أو عبر الخلية لا
يختلف في كل هذه الحالات وإن اختلفت الطريقة وفق تقدم العلم وتطوره والوصول إلى
إمكانية ولادة المولود بغير الطريقة التي كان معمولاً بها منذ أول الخليقة إلى حين
اكتشاف التلقيح الصناعي للنطفة مع البويضة أو عبر الخلية من خلال طريقة الاستنساخ
محل البحث والكلام، والتي توصل إليها العلم في السنوات الأخيرة وأخذت هذه الضجة
العالمية ولا زالت حتى اليوم تتفاعل بين مؤيد ومعارض ومنتظر.
ومن هنا لا بد من الرد على من قال بأن الاستنساخ هو من عمل الشيطان أو أنه يشكِّل
تحدياً للقدرة الإلهية على مستوى الخلق والتكوين فنقول: إن الاستنساخ ليس من عمل
الشيطان بل هو إبداع علمي توصل إليه العقل البشري ذلك المخلوق الذي خلقه الله
وزوَّد به الإنسان ليعرف كيف يتعامل مع الأرض والكون والحياة وتتفاعل معها، وإذا
كان النتاج العقلي منطقياً ولا يخالف قواعد الإسلام وأصوله ومبادئه فكيف يحق لنا أن
نقول عن إبداعات العقل في هذا المجال بأنها من عمل الشيطان، فهذا الكلام مردود ولا
يستحق الرد أكثر من ذلك، لأن قائل مثل هذا الكلام يبدو أنه لا زال يعيش في عصر ما
قبل النهضة العلمية والثورة الفكرية التي أبدعت حتى الآن الكثير مما سهَّل على
الإنسان سبل العيش وأراحه من كثير من المتاعب والصعاب التي كان يعاني ويكابد قبلها.
وأما الرد على من قال بأن الاستنساخ هو تحدٍ لقدرة الخالق، فهذا الكلام أيضاً لا
محصِّل له ولا معنى وذلك لأن تحدي الخالق يكون عبر قدرة الإنسان على إنتاج مولود من
غير كائنات وموجودات كل هذا الكون، وهذا مستحيل بحد ذاته، لأن الأرض والسماوات بما
فيهن مخلوقات لله، وكل ما في الأمر أن الإنسان بعقله وتفكيره استطاع تطوير وسيلة
التوليد فقط لا غير، أما المبادئ الأساسية للتلقيح الصناعي أو الاستنساخ ما زالت
مستندة إلى الإنسان ذاته وهو من مخلوقات الله، والعملية هنا تماماً هي كصناعة أي
شيء أوجده الإنسان عبر تفاعل العناصر الموجودة فيها كالسيارة أو الطائرة أو البراد
والآلات الصناعية، حيث جمع الإنسان عناصر هذه الاختراعات من المواد التي خلقها الله
ولم نسمع أن أحداً قد استهجن أو استنكر ذلك، والاستنساخ من هذا القبيل تماماً فهو
لا زال محكوماً للقدرة الإلهية لأنه يبدأ منه وينطلق من الخلية المتولدة من النطفة
التي جعلها الله مبدأ نشوء الإنسان وتكوُّنه.
ولا بأس في نهاية المطاف من الاستئناس برأي سماحة الإمام القائد آية الله العظمى
الإمام الخامنئيقدس سرهم في جوابه عن استفتاء حول جواز الاستنساخ حيث ورد في
الجواب "أن الاستنساخ لا بأس به بحد ذاته إذا لم يترتب عليه مفاسد جانبية مع
الاحتراز عن المحرمات كالنظر أو اللمس لعورة المرأة عند إخراج البويضة منها أو عند
إعادتها إلى رحمها بعد تلقيحها بالخلية". ولا بد من أن نذكر في نهاية الكلام
أيضاً الفتويين اللتين ذكرهما الإمام الخميني "قده"، وهما متقدمتان حتى على فكرة
الاستنساخ، وقد يحتاج العلم إلى زمن طويل للوصول إلى تحقيقهما عملياً وهما
التاليتان:
الأولى: لو استطاع الإنسان أن يُوْجِد نطفة
إنسانية من النبات أو الثمار ولقحها ببويضة المرأة ونتج عنها مولود من رحم المرأة،
فهذا المولود لا أب له وتكون صاحبة البويضة أمه الطبيعية ويتم النسب والتوارث بينه
وبين أمه وكل من يتصل معها بالنسب وتثبت له سائر أحكام النسب أيضاً.
الثانية: لو استطاع الإنسان أن يوجد نطفة
إنسانية من النبات أو الثمار ويتم زرعها في رحم صناعية مستوفية كل شروط الرحم
الطبيعي عند المرأة، فالمتولد في هذه الحالة لا يكون له أب ولا أم لم يتولد من نطفة
ادمي ولا من بويضة امرأة.
بعد هذا كله نستنتج أن الاستنساخ لا مانع منه شرعاً في أصل الشريعة، والمتولد عن
هذه الطريق هو إنسان كسائر البشر له ما لهم وعليه ما عليهم، وهو مكلَّف بالاستقلال
بعد بلوغه كإنسان مستقل، ولا يتبع المستنسخ منه إلا بالنسب وتوابعه من التوارث وفق
مراتب الإرث، ويحرم عليه الزواج من أخت صاحب الخلية لأنها عمته أو من بنت صاحب
الخلية لأنها أخته، ويحرم عليه الزواج من أخت صاحبة البويضة لأنها خالته ومن بنات
صاحبة البويضة لأنهن أخواته وهكذا. نعم لو فرضنا أن الاستنساخ قد نتج عنه بعض
الأمور التي قد تُسبِّب خللاً في مسيرة المجتمع وأمنه وسلامته، كما لو استنسخنا من
كل شخص المئات بحيث لم نعد قادرين على التمييز حال حصول حوادث أو جرائم أو مفاسد
وما شابه، ففي هذه الحالة يمكن تحريم هذا الجانب السلبي من الاستنساخ لا غير، ولكن
من دون تحريمه بالمطلق كما تبين معنا من كل ما سبق من الحديث.