السيّد علي عبّاس الموسوي
كما إنّ للرقيّ الإنسانيّ درجاته المختلفة والمشهودة،
فكذلك حال التسافل والارتكاس، فإنّك تجد الناس منه على درجات. وهذا يعود إلى إرادة
كلّ فرد من البشر في اختياراته التي يفضّلها ويقدّمها على غيرها فيتّبعها.
عندما وُضع في فطرة هذا الإنسان النزوع نحو التكامل لم يُجعل لهذا حدٌّ ينتهي عنده،
بل كلّما وصل الإنسان إلى كمال اكتسب استعداداً لكمالٍ أرقى. وبهذا يكون للرقيّ
درجاته التي يرقاها حتّى مَن كان محلّ لطفٍ إلهيّ وصناعة ربّانيّة مُحوَّطاً
بالعصمة والحصانة.
وكذلك الحال في العكس، فتجد من البشر من يتفوّق على الشياطين في ضلاله وغيّه، يغوص
في أعماق الضلال، وتكون سنّته في الحياة الانتقال من ظلم إلى آخر، والتسافل
المستمرّ في اختراع المعاصي والآثام.
عندما ننظر إلى حياة الإنسان في الغرب بعد ما يسمّى عصر النهضة والحداثة وما بعدها،
نلحظ هذا الفرق التدريجيّ. ولو نظر فلاسفة الغرب ومفكّروهم ومنظّرو حضارتهم في
مرحلة التأسيس إلى ما هو عليه الإنسان في الغرب اليوم، لكفروا بما قالوا، أو
لأدركوا هول نتائج ما قدّموه.
إنّ الكمال يحتاج في كلّ مرحلة إلى هداية إلهيّة، ويتوقّف على التسديد المرتبط بمدى
عزم الإنسان وخلوص نيّته وصدقه ووفائه. وبهذا، فإنّ الأدوات ينبغي أن تتوافر دائماً
في محضر الإنسان، حتّى يحسن الاستفادة منها. وأمّا التسافل والسقوط، فيكفي أن يعطّل
الإنسان تلك الأدوات التي وهبها الله عزَّ وجلَّ له، ويطمسها فيخبط في وادي الهلاك.
عندما تتعطّل أدوات السمع والبصر وغيرها في الإنسان، فهذا لا يعني أنّه يصبح أعمى
لا يسمع بالمقاييس الماديّة، بل يعني أنّه ولفقدانه سُبُل الهداية والصلاح، تعطّل
العمل بهذه الأدوات، ويعود الأمر في الحقيقة إلى تعطّل العقل الذي يتقن تحليل ما
يأتيه من السمع والبصر، والاستنتاج منه والاستفادة من معطياته.
في محضر شهود كلّ الأعضاء والجوارح على هذا الإنسان، تجدها هي المبصرة والمدركة،
وهي التي سوف تشهد يوم القيامة عليه، وعلى ما فعل، وهي تعي الحقّ من الباطل. ولكنّ
استقالة عقل الإنسان جعلته لا يسخّر تلك الجوارح في مسيرة التكامل، بل أصبح أعمى
البصيرة لا يهتدي سبيلاً.
في تلك المرحلة يقف الإنسان مراوحاً مكانه لا يستطيع التقدّم ولا يستطيع التراجع.
لقد وصل الإنسان في الغرب إلى هذه المرحلة، فهو في كلّ يوم يجد نفسه أمام نوع جديد
من التسافل والتراجع عن إنسانيّته، وهو يدرك مخاطر ذلك، ولكنّه لم يعد يملك القدرة
على الرجوع، بل فقد أدوات ذلك. إنّه المَسخ الذي يصيب الإنسان بحسب التعبير
القرآني، فيكون حاله كما وصفه الله تعالى بقوله:
﴿وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى
مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُون﴾ (يس: 67).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.