نسرين إدريس
إلى الأبطال الذين أسروا ثلاثة جنود صهاينة من مزارع شبعا المحتلة
فرك حبات الزيتون اللزجة بين أصابعه ثم رفعها ليشم عبقها
الأخاذ.. إنها المرة الأولى التي يقطف بها الزيتون، شعور رائع انتابه وهو يتسلق
الأغصان ويمسك بالحبات الكبيرة ليضعها في سلّة القش المعلقة على زنده.. كان يسمع
صوت إخوته وأقاربه وهم يتحدثون ويضحكون ويملؤون سلالهم، ويترك لنفسه العنان
للاستئناس بمنظر الشجر المستسلم لهواء تشرين البارد ...
منذ أن احتل العدو
الإسرائيلي قريتهم، وكان آنذاك طفلاً صغيرًا غادر أهله إلى العاصمة، خصوصًا وأنها
على مرمى حجرٍ من فلسطين المحتلة، وطوال تلك السنوات ظل عملاء جيش لحد يقطفون
المواسم ويجنون ريع بيع الزيت والزيتون، أمّا هم، فطالما اشتروا حاجتهم من المؤونة
بأسعارٍ غالية، فكان ينظر إلى والدته وهي ترصُّ الحبات والدمعة لا تفارق عينها،
وكلما قلّبت كفها تنهدت واستذكرت الخوالي الجميلة.. من الصعب أن يطرد المرء من بيته،
من أرضه، والأصعب أن يرى عدوه يعبث بما هو حق له.. سنوات طويلة من المرارة
والانتظار، توفي خلالها والده وفي قلبه غصة الرجوع، وتعبت أمه من الانتظار فأسدلت
الستائر على نوافذها الحزينة، إلى أن كبر وانخرط في صفوف المقاومة الإسلامية، فصارت
تشعر أن طريق العودة ليست بسراب، فكان كلما عاد من الجبهة جلس بين يديها ليطلب
رضاها، ويغفو من التعب وهي تسحبُ الشوك برفقٍ من يديه، ويشعر بوجهها يقترب من كفيه
لتشمهما كأنها بذلك تتنشق بعضًا من طيب الأرض الطيبة..
نظر إليها وهي تقطفُ الزيتون وقد لوحت الشمسُ وجهها، فرآها تنظرُ إليه وتبتسم،
كأنهما يتحادثان من بعيدٍ بحديث لا أحد يفقهه سواهما.. وحدهما الآن يشعران بسكونٍ
جميل وهما يجلسان على التراب، يتنشقان الهواء بشغفٍ كأنهما لأول مرة يشعران بالحياة..
ابتسم وهو يحاول أن يضبط نفسه من الفرح، لم يشعر أبدًا بهذه الغبطة إلا مرتين،
الأولى، عندما سقط صاروخًا بالقرب منه في إحدى الغارات واستبشر بالشهادة، ولكنه لم
ينلها، والأخرى عندما لفّ نفسه بعلم حزب الله وفتح بوابة العبور إلى القرى المحررة
في أيار 2000.. تسلّق شجرةً عالية، فرأى أمام عينيه أرضَ فلسطين .. أرض الزيتون
التي يصلُ عطر أرضها إلى أنفه فيشمه بعمق.. نظر إلى بيوت المستوطنات اليهودية
المتراصة بإتقان، إلى الشوارع المشجرة، إلى الحقول المزروعة بدقةٍ متناهية تنمُّ عن
خبرةٍ عالية في الزراعة، فوجدها جنّة بلا ناس تتنفس هدوءًا قاتلاً..
عجيبٌ كيف أن
كل مظاهر الحضارة الممكنة عندهم لا تضخ بالحياة، بل أكثر ما يمكن أن يشعر المرء به
وهو ينظر إليها أنها لوحةٌ زيتيةٌ تخبىء في زواياها عناكب الفراغ.. عندما كان يقطن
في العاصمة، كان يشعر دائمًا بغربةٍ على الرغم من أنه في وطنه، فكيف يمكن لأناسٍ
أن يشعروا بالطمأنينة على أرضٍ سرقوها من أهلها ؟! لا يمكن ذلك أبدًا بدليل أن
المستوطنات تبقى شبه فارغة، ولا يصدر منها أي حركة خلا تنقلات السيارات العسكرية..
إن هذا المشهد لا يعني أن المستوطنين اليهود شعبٌ هادئ، بل على العكس، شعب خائف
بشدة..
ما فتىء الخوف يفتك بأولئك الناس الباحثين عن وطنٍ لن يجدوه، فإذا ما سكتت
الكاتيوشا اللبنانية انطلق الحجر الفلسطيني، وعندما أقفلوا البوابة على جحيم لبنان،
اشتعل أوار الحرب من جديد في الداخل.. آهٍ لو كان يستطيع القفز فوق تيك السياج
ليعبر إلى أرض الزيتون فيكمل ما بدأه هنا.. لو اقتلع قلبه ورماه على دوريةٍ صهيونية
لشعر أكثر بالحياة، يشتاقُ هو إلى صوت الرصاص، يشتاقُ إلى الشعور بنشوة النصر وهو
ينظر إلى أقوى جيوش العالم يخشى من صوت نعليه، يتمنى لو أن نداءً واحدًا يصلُ إلى
مسامعه يهزُّ بداخله صراخًا يصل إلى أعماق فلسطين ينبئها أن جحافل النصر قادمة
إليها.. تنهد طويلاً، ثم نكس نظراته إلى الشجرة التي مدّت فروعها إليه، وعاد من
شروده إلى قطاف الزيتون، عندما سمع صوت والدته وهي تناديه وتهرول صوبه، وتقول له:
هل سمعتَ ملحق الأخبار الذي بثه مذياع المسجد نقلاً عن الإذاعة، لقد أسرت
المقاومة ثلاثة جنود صهاينة من مزارع شبعا.. قالت هذا وهي تحمل أذيالها وتهرول
لتبلغ كل من في الحقل.. أما هو فعاد وحدّق اكثر بالمستوطنات، ثم رفع قبضته عاليًا،
وصرخ بأعلى صوته: الله أكبر..