نسرين إدريس
تحيةً إلى الاستشهاديتين الفلسطينيتين آيات الأخرس ووفاء إدريس
بين دخان الطرقات، وبيوت صارت مأوى لخفافيش الليل، وأحواض
ذبلت فيها أزهار الصبح، فتحت نافذة البيت، وتنشقت بعضاً من عطر يومٍ جديد، وأرسلت
بسمتها خلف نظرتها المحدقة في البعيد، لم تشعر بخطوات والدتها وهي ترنو منها لتقطع
عليها الشرود المسافر تحت أهداب عينيها الواسعتين.. أو ليس هذا الصباح جميلاً، صوت
زقزقة العصافير رائع جداً.. أليس كذلك يا أمي.. ليس ثمة زقزقة عصافير يا بُنية، إن
هي إلا أصوات سلاسل الدبابات تشقُّ بطن الإسفلت، أو رصاصات قنصٍ.. فكيف استطعت سماع
أغنيات العصافير في وطنٍ صار بلا حياة.. لا تقولي ذلك يا أمي، انظري إلى الحياة
القوية تنبت بين الخوف الصارخ.. أغمضي عينيكِ لتري الجنة كيف تنبت في أحواض منزلنا..
اسمعي العصافير تغني باسم فلسطين.. لا تفتحي عينيك يا أمي، فإن العيون تخون، فقط
انظري بقلبك، وحده قلبك سيريك الحقيقة..
آه ما أجمل أحلامك الطفولية.. هيا يا ابنتي أغلقي الشباك قبل أن تشرق الشمس، ويبدأ
الحصار.. سأغلقه لأصلي.. سأوصده حتى إذا ما فتحته من جديد، سيدخل نسيم الحرية،
وستغفو أحلامي عند أطراف الزجاج الحالم بأشعة شمس لا تغيب.. صلي يا أماه لأجلي..
ليتك لا تكبرين فيبقى في مخيلتك وطناً تأوين إليه. سأكون اليوم لأجل وطني فلسطين..
فلسطين صارت وطن الموت والخوف.. وليست فلسطين الزيتون واللوز.. ستبقى فلسطين..
سأكتبها كما أريد.. بأجمل حبرٍ.. أغلقي النافذة فريحُ الغضبِ آتية لا محالة.. إنهم
يقتربون، يدمرون كل شيء، ولا مكان آمن لنهرب إليه.. إنهم يقصفون المساجد والكنائس،
يقتلون حتى الرضع.. على رسلك يا أماه، من قال لك أننا وحدنا سنموت؟ أقسمُ لك بدم كل
الشهداء أنهم أيضاً سيقتلون.. حلت الساعة العاشرة ارتدت وفاء ثيابها لتخرج؛ رتبت
أوراقها، وتفقدت خزانتها، وتنقلت في غرف البيت، تسترجع كل ذكرياتها، وعندما وصلت
إلى غرفة الجلوس، كانت عائلتها تشاهد على التلفاز الحرب التدميرية، وطعنها
الاستنكار العربي في الصميم، وذبحها الأسف الشديد لما يحصل في فلسطين من الوريد إلى
الوريد؛ لو كان الأسفُ يرجع الوطن، لما سُلبت أبداً فلسطين.. وقع صفقات يدي والدها
وهو يضرب كفاً بكفٍ كرنين تساقط النجوم في قلبها.. شعرت أن الأرض تدور بها بسرعة،
وهي تسمع أمها تقول: "إلى أين سنذهب؟"، فيجيبها زوجها: سوف نبقى في البيت.. (فالبيوت
تموت إذا غاب سكانها)(*)".. "والأولاد؟"..
"الله معنا ومعهم".. نظر والدها إليها، صبيةٌ في مقتبل العمر، يشرق وجهها بحجابها،
وسمرتها الفلسطينية الساحرة تفوح منها رائحة العنفوان.. إلى أين يا "وفاء"؟ الطرقات
كلها محاصرة.. الطرقات هي المحاصرة، لكن قلوبنا لا تحاصر.. "الخروج ممنوع، رصاص
القناص لا يهدأ" صرخت والدتها.. ونبض القلوب أيضاً لا يهدأ يا أمي.. لا تلهبي النار
في كبدي يا وفاء. ابقوا في المنزل يا أماه، ولا تتركوه.. حتى وإن دمروه عليكم..
مدوا شرايينكم في الأرض فلا يستطيعون أن يقتلعوكم.. وفاء.. أنت من سميتني وفاء..
وهذا الوفاء إن لم يكن لفلسطين، فسيكون خيانة.. متى ستعودين؟ لم تجب.. حضنتها فقط
وخرجت.. وخرجت وفاء إلى الشوارع القديمة.. سمعت جدران المنازل تغني الحياة.. دائماً
خلف الموت الأحمر تولد حياة الشرفاء.. ابتسمت في وقت الدموع.. وتنهدت بلا وجع..
مسرعةً تشقُ الطريق تتنشق هواء الحرية.. ومن بعيد لمحت أحد الأطفال يسقطُ مضرجاً
بدماه، وفي يده يغفو حجراً من سجيل..
لم تبكِ وفاء، لا وقت عندها للدموع، فموعدها يقترب.. ولن تخونها عقارب الساعة، كانت
تتمتم ما حفظته من سور القرآن الكريم.. وقفت لبرهة تنظرُ إلى اليهود يتنقلون
مطمئنين على أرضٍ ليست لهم، وتذكرت خوف أمها وإخوتها. غريب؛ لقد رأت وفاء عالمين
مختلفين على بقعة أرض واحدة: شعبٌ يقتل بدم بارد.. وشعب يعيش حياته الطبيعية كأن
شيئاً لم يكن.. استهزأت وفاءُ بهذا العالم، ورمقت السماء لتشدّ على قلبها، ودخلت
إلى المحل التجاري بهدوء كأنها نسمةٌ لتتحول في الداخل إلى بركان نار لتقتل من
يقتلون شعبها.. "ابقوا في المنزل، ولا تتركوه.. حتى وإن دمروه عليكم.. مدوا
شرايينكم في الأرض فلا يستطيعون أن يقتلعوكم"..
(*) محمود درويش.