تتوجه الأحكام الشرعية إلى نفس الإنسان المكلَّف،
والإنسان أمام التكليف هو مجموع الجسد وقواه، وعلى هذا فان الحكم بوجوب صوم شهر
رمضان يقتضي التزام كامل الجسد بما يتعلَّق بكل عضو منه ليتحقّق الصوم .فانَّ
أعضاء الجسد التي تتحرك بإرادة الإنسان هي أداة تحقق الصوم أو الإفطار.
ومعروف أنَّ الصوم المفروض بعناوينه الأساسية يتعلق بأمور مباحة في الأصل ليمتنع
الإنسان عنها، أو يتأكد المنع في بعض مكملات الصوم كالكذب على الله ورسوله, في
مقابلها يتأكد الاستحباب في بعض الموارد . وإذا نظرنا إلى المفطرات الممنوع منها
الإنسان حال صومه مقارنة بأعضاء الجسد وجدنا أنّ الأكل والشرب مثلاً يتعلقان
باليدين والفم والأسنان واللسان والحلق والبلعوم إلى آخر المطاف , إن لم نذكر
الرجلين كأداة حركة للوصول والإتيان بالطعام والشراب، كل هذه كوسائط لإشباع حاجتي
الجوع والعطش اللتان تتعلقان بمجموع الجسد وقواه كما ذكرنا. وهكذا يرتبط كل مفطِّرٍ
بعدد من أعضاء الجسد وحاجاته.
* فهل يمكن الكلام عن الجوارح مستقلة عن الإنسان؟
وإذا كان الصوم هو الامتناع امتثالاً وقربة إلى الله تعالى , فهل يمكن الكلام عن
صوم لجوارح الإنسان خارج المفطرات المعروفة تبعاً لارتباط وتعلق إرادة الإنسان
بجسده؟ أو عن صوم من نوع آخر غيره ويختص بالجوارح نحترز به لها عن النار؟ هذه
عناوين أسئلة ثلاثة سنحاول الإجابة عليها إن شاء الله تعالى على صعيد هذه الدنيا،
وفي ما يبدو لنا وجوداً ظاهراً يصعب الكلام عن استقلال للجسد عن نفس الإنسان ، لكن
لو دققنا قليلاً لوجدنا أن ذلك ممكن ودليله من جهتين شرعية ووجدانية , وقبل بيانها
ينبغي التأكيد على أن القسمة هنا ذهنية لا خارجية بحيث لا يتصور وجودان مستقلان
لنفس الإنسان في جهة ولجسده في جهة أخرى . فمن ناحية شرعية هكذا نفهم ما جاء في
رسالة الحقوق عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين بشأن أعضاء البدن ,حيث قال عليه
السلام: " اعلم أن لله عز وجل عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنة
سكنتها، أو حال حللتها أو منزلة نزلتها أو جارحة قلَّبتها أو آلة تصرفت فيها. فأكبر
حقوق الله تعالى عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق، ثم ما أوجب
الله عز وجل عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك، على اختلاف جوارحك، فجعل عز وجل للسانك
عليك حقا، ولسمعك عليك حقا، ولبصرك عليك حقا، وليدك عليك حقا، ولرجلك عليك حقا،
ولبطنك عليك حقا، ولفرجك عليك حقا ، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال.
ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقا"
ومن الناحية الوجدانية فإننا نلاحظ إدراك المعتاد أو المدمن على أمر من الأمور وصول
جسده إلى حالة الاحتياج المادي إلى المادة المدمن عليها ، فلو أراد الامتناع عنها
فجأة لتداعت أعضاؤه الجسدية في طلبها بحيث تحرك إرادته في طلب الحصول عليها لإشباع
حاجته الجسدية لها. نعم قد يقال أنَّ هذا نوع من الاضطرار أو الإكراه المادي ونفس
الإنسان هي المسؤولة نهاية الأمر عن تنظيم الحركة في الطلب لما يشبع الرغبة، ها هنا
تظهر الصعوبة في إثبات استقلالية أعضاء الجسد في إرادة شيء أو فعل أو إحساس، لكنَّ
الآخرة تثبت لنا أنَّ هذه الأعضاء كانت
تملك استقلالية بنحو ما. وهو
ما عبَّر به أهل النار من الذين خسروا أنفسهم بغلبة الشقوة عليهم
فالاضطرار قد يكون بسبب خارجي حتى يفعل منقاداً كما في قوله تعالى في سورة لقمان:
﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ
﴾ الآية 24 , أو بسبب داخلي : بقهر قوة الحاجة: إمَّا أنَّه
يناله بدفعها هلاك كالجوع كما في قوله تعالى في سورة المائدة :
﴿... فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ
اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
﴾ الآية 3 أو لا يناله بدفعها هلاك كمن غلب عليه شهوة خمر أو
قمار, وهو ما أشار إليه قوله تعالى في سورة المؤمنون
﴿قَالُوا
رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ
﴾ الآية - 106 وتفسير الشقوة يتبين من قولهم في الآية التالية :
﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ
﴾ الآية - 107 , فإن مرادهم من فَإِنْ عُدْنَا هو الأعمال
المؤدية إلى الشقاء أو هو وصف لها بالشقاوة , وفي كلاهما دلالة على أنها كانت غالبة
عليهم بحيث لم يتمكنوا من دفعها . قد لا نثبت لأعضائنا استقلالية كاملة في هذه
الدنيا بمعنى كونها عاقلة مقابل نفس الإنسان العاقلة المسؤولة في جنبتها الروحية،
لكنَّها عاقلة بمعنى آخر هو قابلية الحفظ والأداء للشهادة في الآخرة كما جاء في
القرآن الكريم من سورة فصلت:
﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ
وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ
عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ
خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ
أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ
وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ
﴾. أو من سورة يس:
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ
وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾65.
أو من سورة النور:
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
24.
ومعنى قوله تعالى في سورة فصلت
﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ ..﴾
الآية 22 يظهر منه في كلام الإمام زين العابدين
عليه السلام في رسالة الحقوق حيث يقول:
"وحق الصوم أن تعلم أنَّه حجاب ضربه الله عز وجل على لسانك وسمعك وبصرك وبطنك
وفرجك ليسترك به من النار، فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك". وبملاحظة أنَّ
ما يعمل في الخفاء لا شهود عليه فلا يُعرف إلاَّ بالإقرار يظهر أيضاً معنى من معاني
الحديث القدسي "كل عمل ابن ادم هو له غير الصيام هو لي وأنا أجزي به". ها
هنا شهود تخرق الستر وتبدي ما خفي من عمل وتؤدي بصاحبه إلى الجزاء الذي يستحقه. إنَّ
الحجاب الذي ضربه الله عز وجل على اللسان والسمع والبصر والبطن والفرج "... ليسترك
به من النار" هو نتيجة امتناع هذه الأعضاء كلها عن فعل ستكون عاقبة الشهادة به
النار وحتى نصل بأنفسنا وأعضائنا إلى الاحتجاب عن النار كان افتراض الصوم عليها
جميعاً. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مبينا نوعي الصوم :
"صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار خوفاً من العقاب ورغبة في الثواب
والأجر، صوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر الماثم وخلو القلب من جميع أسباب
الشر". وعلى هذا الأساس، فإذا كان صوم شهر رمضان عن المباحات في غيره، يفيد
فيما يفيد به اعتياد النفس وتدريبها على الامتناع عن المحرمات فيه وفي غيره أن
تطلبها، وهكذا تدريب واعتياد يشملان أعضاء الجسد فتتخلص أيضاً من الاحتياج المكره
للنفس على إرادة المحرم في شهر رمضان وفي غيره من الشهور والأيام، فكان على الإنسان
أن يلتفت إلى رعاية هذه الأعضاء تأهيلاً لها لتكون عوناً لنفسه لا عدوا لها، ولها
بعد ذلك حقوق كما يعلمنا الإمام زين العابدين عليه السلام:
".. وحق اللسان إكرامه عن الخنى، وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها
والبر بالناس وحسن القول فيهم. وحق السمع:
تنزيهه عن سماع الغيبة وسماع ما لا يحل سماعه. وحق
البصر: أن تغضه عما لا يحل لك وتعتبر بالنظر به.
وحق يدك: أن لا تبسطها إلى ما لا يحل لك.
وحق رجليك: أن لا تمشي بها إلى ما لا يحل
لك، فبهما تقف على الصراط فانظر أن لا تزل بك فتردى في النار. وحق بطنك: أن لا
تجعله وعاءً للحرام ولا تزيد على الشبع. وحق فرجك:
أن تحصنه عن الزنا وتحفظه من أن ينظر إليه".
وهذه الحقوق ترجع في حقيقتها إلى الصوم أو الامتناع الخاص بكل واحد من الأعضاء
والجوارح عبَّر عنها الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام بقوله:
"إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك من الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح.."
ولذلك كان من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام إذا دخل شهر رمضان "..
وأعنّا على صيامه بكف الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك حتى لا نصغي
بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا
نخطو بإقدامنا إلى محجوز".