الشيخ علي حسين حمّادي
"استعاد الأعداء التلّ مجدّداً...". كان خبراً سيّئاً
جدّاً، خاصّة على الرجال الذين بذلوا جهوداً كبيرة لتحرير هذه المنطقة
الاستراتيجيّة.
* المياه في الخندق
لم تكن تلّة "زُحل" ذات مساحة كبيرة. ولكنها مع ذلك مهمّة جدّاً في المفاهيم
العسكريّة ومؤثّرة في سير المعركة، كونها مشرفة على طرقات رئيسةٍ، يمكن استخدامها
كخطوط إمداد. فكانت المهمّة من جديد تكرار الهجوم للسيطرة عليها وتحريرها من قبضة
العدوّ.
وُضعت الخطّة، وانطلقت المجموعات في ليلة باردة جدّاً، وكان العدوّ يتوقَّع ذلك،
فقام بمحاولةٍ لصدِّ أيّ هجوم، بحفر خندق حول التلّة وجرّ المياه إليه من أحد
الأنهار القريبة من المكان، ثم تحصّنوا أعلى التلّ بأفضل ما يمكن.
* روحي تستعجل الحريّة
كان مساء الخميس عندما وصل المقاتلون إلى مشارف التلّة، فتفاجأوا بخندق المياه الذي
بلغ عمقه حوالي مترين، وعرضه تجاوز الخمسة أمتار.
نظر هادي، وهو من مشاة قوّات التدخّل، إلى التلّة نظرةً تحمل الكثير من المعاني
والأفكار. لاحظ ذلك مسؤول مجموعته الحاج أحمد، فاقترب منه مبتسماً:
- أراك تستعظم المهمّة يا هادي! أم هل سرى إلى روحك ذلك الإحساس السحري الذي
يحدّثنا عنه بعض الإخوة قبيل استشهادهم؟!
- أمّا بالنسبة إلى روحي (قال هادي) فهي تتأوَّه منذ الصباح وتضطرم في داخلي كأنها
تستعجلني الخروج إلى الحرية، فأسأل نفسي هل حانت الساعة؟ هل سيقبلني الله يوماً في
عِداد أوليائه؟
إنّ الله يصطفي من عباده من يشاء... ويبدو أنّ أبواب الرحمة والقَبول مفتوحةٌ على
مصراعيها هذه الأيام، قال ممازحاً.
أمّا بالنسبة إلى المهمّة (استأنف هادي) فقد كنت أنظر إلى هؤلاء الحمقى القابعين
على التلّة، هل يظنون فعلاً أنهم مانِعَتُهُم حصونُهم وخندقُ مائهم الهزيل من
بأسنا؟!
* معابر الأحرار
- صدقتَ يا هادي. على كلّ حال، لقد بدأ الشباب يعدّون الجسور المائيّة من تركيب
ألواح خشبٍ فوق إطارات كبيرة وسنتقدّم الليلة، إن شاء الله. فقد وعدَ الإخوةُ
أنفسَهم بالسباحة غداً صباحاً فور استرجاع التلّ.
بعد حوالي ساعتين، وبعد أن أنهت المدفعيّة القصف التمهيديّ، تقدّمت مجموعتان باتجاه
الخندق، يحمل أفرادهما جسور العبور على أكتافهم، وقلوبهم معارج العشق بغير جسور،
وفوهات بنادقهم معابر الأحرار إلى بوابة النور...
وضعوها في الماء، فكان لا بدّ من نزول أحدٍ إلى الماء كي يسحب الحبال، ويسبح بها
إلى الطرف الآخر ليوصل الجسر ويثبّته.
* سيّدي... على العهد معك
نظر مسؤول المجموعة إلى الإخوة: سوف أنزل... قاطعه هادي: كلا يا حاج أحمد أرجوك.
أنت ستقود المجموعة إلى التلّ. اسمح لي بالنزول إلى الماء، فقد لا تتوفّر الفرصة
لأسبح معكم غداً. وبعد موافقة الحاج حمل هادي الحبال، ووقف على طرف النهر وقال:
- سيدي... لقد عاهدناك أنّا سنخوض معك البحار لو خضتها والجبال والأنهار والصحارى
والوديان... فهيهات يمنعنا هذا الخندق الواهن.
ورمى بنفسه بقوّةٍ وعزمٍ فأحسَّ بالماء يلسع جسده كالسكاكين لشدّة برودته وراح يضرب
بيديه ورجليه باتجاه الطرف الآخر وشفتاه تردّدان نداءات التوسّل ليستمدّ العزم
والقوّة من الله تعالى.
وما كانت إلّا ثلث ساعة حتى وصل وعقد الحبال بإتقان، فانطلق الشباب بسرعة عابرين
الخندق ليصعدوا إلى التلّ، مقتحمين بعنفوان دُشَمَ الأعداء، قاهرين كلّ ما وقف
بوجههم من كلّ الجهات، إلّا جهة واحدة خلفيّة، تعمّدوا تركها فرصة لفرار من تبقّى،
والذين ما لبثوا أن ولّوا مدبرين.
انتهت المعركة، تحرّر التلّ. نزل الإخوة ليتفقّدوا هادي فوجدوه ممسكاً بالجسر في
الماء يثبّته بجسده. ذلك الجسر الذي شعر بأنه سيعبر به إلى عالم الشهادة الذي يحبّ.
* قلب دافئ
نزل الحاج أحمد بسرعة إلى الماء بعد أن نادى المسعف. اقترب من هادي فأحسّ بشدّة
برودة الماء ولكنه وضع يده على صدر هادي ليتفقّد نبضه فتفاجأ بالحرارة تنبعث من
قلبه، ذلك القلب الدافئ المطمئن.
- استشهد هادي... قال الحاج. وأغمض عينَي هادي وذرف دمعة حارّة.
قرأ رفاقه الفاتحة. حملوا جسده إلى سيارة الإسعاف، مطمئنين أنّ روحه الآن تحملها
الملائكة لترفرف، حيث لا شمس ولا زمهرير، على ضفاف الكوثر راضية مرضيّة.
طلعت شمس الصباح. كانت التلّة محرّرة والمجاهدون يغتسلون الجمعة في بركة ماء
باركها الشهيد هادي بأنفاسه الطيّبة الأخيرة.