السيّد رضيّ الدين ابن طاووس
*تأدّب مع ملك الملوك
ولا تقل أو تسمع من الجاهلين أو الغافلين "أنّ هذا ما يقدر عليه"، فإنهم قالوا لنا
مثل ذلك، وعرفنا بالله جلّ جلاله أنّهم خاطئون فيما أشاروا عليه؛ لأنّنا وجدنا من
نفوسنا وعقولنا أنها تتأدّب مع الملوك والعظماء في دار الفناء، ومع الأصدقاء
والرفقاء، بل ومع الغلمان والجيران ومن لا ترجوه لنفعٍ وإحسان، ولا لدفع أخطارِ
الزمان، أدباً بقدر من يجالسه أو يشاهده منهم، فكيف جاز أن يكون الأدب مع علم الله
جلّ جلاله بنا، وقدرته علينا، وإحسانه إلينا، دون هؤلاء الذين لا نبالي بالإعراض
عنهم؟
واعلم, يا ولدي محمّد، حفظ الله جلّ جلاله فيك عنايته بآبائك الطاهرين وسلفك
الصالحين، وسلك بهم كامل سبيلهم القويّ المكين، أنّ أصل ما أنت فيه أن تكون ذاكراً
أنّك بين يدي الله جلّ جلاله وأنّه مطّلع عليك، وأنّك كلّ ما تتقلّب فيه من إحسانه
إليك، وأنّه صَحِبك من ابتداء إنشائك من التراب وتنقّلك من الآباء والأمهات -كما
شرحنا فيما فات- أحسن الصحبة بالعنايات، وصَحِبك في وقت وجودك بما نبّهناك به عليه
من السعادات، وأنتَ محتاجٌ إلى جميل صُحبته ورحمته مع دوام بقائه بعد الممات.
*ذاكرٌ أنّك بين يديه
ومَنْ ذا يحميك منه إنْ أعرض عنك أو أعرضْتَ عنه؟ ومَنْ الذي يحفظ عليك إذا ضيّعت
نفسك وكلّ ما في يديك؟ ومَنْ الذي إذا أخرجته من قلبك تتعوّض به عن ربّك جلّ جلاله؟
فأُريد من رحمته أن يملأ قلبك من معرفته وهيبته ورحمته، ويستعمل عقلك وجوارحك في
خدمته وطاعته، حتى يكون إنْ جلسْتَ فتكون ذاكراً أنّك بين يديه، وإنْ أقمت تكون
ذاكراً أنّ قوة قدرتك على المشي منه، وتتأدّب في المشي تأدّب الماشي بحضرة ملك
الملوك إليه الذي لا غناء عنه.
واعلم أنّ جوارحك بضائع معك لله جلَّ جلاله، وأمانات جعلك تاجراً فيه لنفسك
ولآخرتك، فمتى صرفتها في غير ما خُلقْتَ له من الطاعات والمراقبات، أو أنفقْت وقتاً
من أوقاتك في الغفلات، كان ذلك الخسران عائداً إليك بالنقصان، ومثمراً أنْ يعاملك
سيّدك بالهجران واستخفاف الهوان.
*تُب قبل نومك في الحال
وحيث قد ذكرتُ لك, يا ولدي, بعض ما أجراه الله جلّ جلاله على خواطري في أدب الحركات
والتصرّفات، فيحسن أن أذكر ما تحتاج إليه عند منامك، جعله الله جلّ جلاله كنوم ذوي
المعارف والمراقبات.
فاجلس في فراش منامك بالأدب بين يدي مالك وجودك وحياتك وعافيتك وجلوسك وقيامك،
تذكّر ما جرى منك قبل نومك من غفلة عن الله جلّ جلاله، أو تفريط في طاعتك وخدمتك.
وما لم تَتب عنه فتُب في الحال عنه، إنّك بالنوم تصير أسيراً لا تقدر أن تنفع نفسك
قليلاً ولا كثيراً ولا أن تدفع عنك في وقت منامك شيئاً من الآفات التي لا يمكن
التحرّز منها، وتترك روحك وكلّ ما أعطاك الله جلّ جلاله من نعمته مستمراً لا تقدر
أن تدفع عنها.
فصالح مولاك صُلح العبد الذليل الحقير الفقير للمولى الجليل العليّ الكبير،
واخشع بين يديه، وسلّم نفسك وكلّ ما وهبك الله واستودعه الجميع وقد سلمت من درك
التضييع.
(*) كشف المحجّة لثمرة المهجة، السيّد رضيّ الدين ابن طاووس، ص120.