الشيخ تقي الدين إبراهيم الكفعمي
يا نفس!
إن الدنيا يونق [يعجب] منظرها، ويوبق [يهلك] مخبرها، ولا تدوم حبرتها [حسنها]، ولا تؤمن فجعتها، حائلة زائلة، نافذة بائدة، أكالة غوالة، غرارة ضرارة، فالكون فيها خطر، والثقة بها غرر، والإخلاد إليها محال، والاعتماد عليها ضلال، لم يصفها الله لأوليائه، ولم يضنِ [يبخل] بها على أعدائه، وهي والآخرة عدوّان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتوالاها، أبغض الآخرة وعاداها .
يا نفس!
إن جزعت على ما تفلّت من يديك، فاجزعي على ما لم يصل إليك، وإن كنت في البقاء راغبة فازهدي في عالم الفناء، وإن كنت للنعيم طالبة فاعتقي نفسك من دار الشقاء، وأراك إن دعيت إلى حرث الآخرة كسلت، وإن دعيت إلى حرث الدنيا عملت، وإن سقمت ندمت، وإن عوفيت نسيت، تواقعين الحوبة [الجهد والحاجة]، وتتكلين على التوبة، فأحسني الاستعداد والإكثار من الزاد ليوم تقدمين على ما قدّمت، وتندمين على ما خلفت، وتجازين على ما أسلفت .
يا نفس!
إنك إن سالمت الله سلمت وفزت، وإن حاربت الله خربت وهلكت، وإن أقبلت على الدنيا أدبرت، وإن أدبرت أقبلت، وإنك إن أطعت الله نجاك وأصلح مثواك، وإن أطعت هواك أصمك وأعماك وأفسد منقلبك وأرداك، وإن ملكت هواك قيادك أفسد معادك وأرداك، بلاء لا ينتهي، وشقاء لا ينقضي .
يا نفس!
إنك إن اغتنمت صالح الأعمال نلت من الآخرة نهاية الآمال، وإنك إلى مكارم الأخلاق والأفعال أحوج منك إلى جمع الأموال، وإنك إلى إعراب، الأعمال أحوج منك إلى إعراب الأقوال، وإنك إلى اكتساب الأدب، أحوج منك إلى اكتساب الفضة والذهب، وإنك إن رغبت في الدنيا أفنيت عمرك، وأبقيت وزرك، وإن زهدت خلصت من الشقاء، وفزت بدار البقاء، فاصبري على البلا، واشكري في الرخاء، وارضي بالقضا، يكن لك من الله الرضى .
يا نفس!
إنما الكرم التنزّه عن المساوي، والورع التطهّر عن المعاصي.
واعلمي: أن آفة العقل الهوى، وآفة النفس الوله بالدنيا، وآفة الطاعة العصيان، وآفة النعم الكفران، وآفة الأعمال عجز العمال، وآفة الآمال حضور الآجال، والبصير من سمع ففكّر، ونظر وأبصر، وانتفع بالعبر، والسعيد من خاف العقاب فآمن، ورجا الثواب فأحسن.
يا نفس!
إذا كان البقاء لا يوجد فالنعيم زائل، وإذا كان القدر لا يرد فالاحتراس باطل.
واعلمي: أنه بالعفاف تزكو الأعمال، وبالصدقة تفسخ الآجال، وبالطاعة يكون الإقبال، وأن الله إذا أحب عبداً بغضّ إليه المال، وقصّر منه الآمال، وإذا أراد بعبد شراً حبّب إليه المآل، وبسط منه الآمال.
يا نفس!
إنك ستؤاخذين بقولك فلا تقولي إلّا خيراً، وتجازين بفعلك فلا تفعلي إلّا بِرّاً، وإنه بقدر اللّذة يكون التغصيص، وبقدر السرور يكون التنغيص، وبالطاعة تحصل المثوبة لا بالكسل، وبالعمل تحصل الجنة لا بالأمل، وبالأعمال الصالحات ترفع الدرجات، وبالتوبة تمحص السيئات، وبادري العمل عمراً ناكساً، ومرضاً حابساً وموتاً خالساً.