وهو الإمساك حيث ينبغي البذل، كما أن الإسراف هو البذل حيث ينبغي الإمساك، وكلاهما مذمومان، والمحمود هو الوسط، وهو الجود والسخاء. إذ لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالسخاء، وقيل له: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ . وقال تعالى:﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾.
فالجود وسط بين الإقتار والإسراف، وبين البسط والقبض، وهو تقدير البذل والإمساك بقدر الواجب اللائق. ولا يكفي في تحقق الجود والسخاء أن يفعل ذلك بالجوارح ما لم يكن قلبه طيباً غير منازع له فيه. فإن بذل في محل وجوب البذل ونفسه تنازعه وهو يضايرها فهو مُتَسَخٍّ وليس بسخي، بل ينبغي ألا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له، وهو صرفه إلى ما يجب أو ينبغي صرفه إليه.
* ذم البخل
البخل من ثمرات حب الدنيا ونتائجه، وهو من خبائث الصفات ورذائل الأخلاق. ولذا ورد في ذمه ما ورد من الآيات والأخبار. قال الله سبحانه:
﴿ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ . وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾. مما يظهر من خلال هاتين الآيتين عاقبة البخل على أنواعه سواء البخل على النفس أو على من تحت إعالة البخيل، وأيضاً تشير الآية الأولى إلى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل أيضاً، فبما أن البخل آفة نفسية فلا بد أن تظهر على صاحبها بين الناس، عندئذ لا بد له أن يداريها فيحسن لهم صنيعه لكي يبرر فعله له وهذه آفة الآفات فمثل هذا الإنسان لا يرحم نفسه ومن يعوله ويدعو إلى عدم الرحمة في المجتمع فجزاؤه العادل هو ما صرَّح به تعالى في ذيل الآية الثانية بأن البخلاء سيُطوَّقون يوم القيام بما بخلوا به نيراناً وكلما كان البخل أشد وأكبر كلما كان التطويق بالنيران أعظم وأهول.
فمن هذا التوضيح يظهر لك عزيزي القارئ شدة مساوئ البخل وانعكاسها على الأفراد المحيطين بصاحب هذا الخلق السيئ سلباً ليكون أداة فعّالة لتدمير المجتمع.
فصاحب مثل هذه الآفة يجب عليه القضاء عليها في مهدها من خلال الإنفاق المستحب بالدرجة الأولى، كالصدقات وإكرام الضيف المؤمن والتبرع للأعمال الخيرية ومثلها من الأمور فقد قال تعالى ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ وهذه أفضل الوسائل للتخلص من هكذا آفة والوصول إلى هكذا مرتبة.