إنّ الهداية العامة شاملة وواسعة، ولا يقابلها أي نوع من الضلالة، بل كل شيء يوجد في عالم الإمكان يكون على أساس الهداية التكوينية لله تعالى، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وسواء في المادة أو العالم المجرد.
ولا بد من الإلتفات إلى أنّه وإن كان للهداية التشريعية مقابلٌ باسم الإضلال التشريعي، بصورة وضع قانون ضارٍ وتعيس، لكن لا ينسب هذا إلى ساحة القدس الإلهية، وأنّ الله يدعو إلى القبيح أو ينهى عن الفعل الحسن، أو أن يضع قانوناً ليس في صالح الفرد أو المجتمع، كل هذا لا يصح نسبته إلى الله تعالى، بل يعتبر مثل هذه القوانين جاهلية بعيدة عن حريم الوحي الإلهي، ويعتبر في الكثير من الموارد أنّ علله وأحكامه هي السبب في إصلاح المجتمع.
وفي أي وقت ينحرف الإنسان على الرغم من امتلاكه إمكانيات الهداية من العقل الداخلي والنبي الخارجي، ويتنكب عمداً عن الخط المستقيم، تاركاً الكتاب الإلهي وراء ظهره، فإنّ الله عزَّ وجلَّ يعاقبه بسبب ضياعه وتنكبه عن طريق الحقّ، أي لا يعطيه نور الاهتداء، ولا يوفقه لتعلم المعارف والأحكام والامتثال بها.
وعاقبته أن يُحكم بالعذاب الأليم في جهنّم. ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (الصف: 5)، وهذه الإزاغة، عقاب على ذلك الزيغ الاختياري الذي انتخبوه بأنفسهم ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ (البقرة: 26)، ففي هذه الآية ينسب إضلال الفسّاق إلى الله، يعني أنّ المدخل الوحيد الذي يضل الله فيه الفرد هو المدخل نفسه الذي يختاره الإنسان ويفضله على الطريق السويّ ﴿وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَاب﴾(غافر: 34).
يبيّن الله تعالى في هذه الآية أنّ الإضلال عقوبة على الإسراف والشك، وهناك آية أخرى بهذا المعنى وهي: ﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾ (التوبة: 115)، يعني أن الله عزَّ وجلَّ لا يضل أي مجتمع إلاّ من بعد أنّ يبيّن له الهداية والطريق الكامل للتقوى، والشخص الذي يختار طريق الضلالة من بعد تبيان الطريق المستقيم ويسير عمداً في طريق الانحراف ويصرّ عليه فإنّ الله عزَّ وجلَّ يضله. ﴿مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴾ (غافر: 74). لأنّه ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي ﴾ وإذا اختار شخص طريق الباطل بعد تبيّن ووضوح الحقّ، فإنّه سيحرم من نعمة التوفيق، إلاّ أن يظهر فيه تحو خفي، وفي هذه الحال سيعود إليه اللطف الإلهي مرة ثانية، وإذا عاد هو للضلال فسيعود الله كذلك ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ ،﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌا﴾ .
إنّ محور كل التحولات في هذه الآيات هو التحول والتبدل النفساني الداخلي، فإذا مالت النفس نحو الإصلاح فسوف تترك النقص وتسير نحو الكمال في ظل توفيق الله عزَّ وجلَّ.