ندى بنجك
وقفت أصغي للواقفين على ضفة نهر...
يتساءلون عن الذي أفرد جرحه، فجرت أنهار الأرض
تعدو وراءه لتلبس وردته...
وكثر به العارفون...
وكثر به العارفون...
قال طائر جنوبي...
كان هنا جناحان يمشطان رموش القرى...
يعرجان فوق السحاب، فتمطر أشجاراً وبلابل
قالت عيون النهر...
كان يأتي، يمرغ وجه الماء بكفيه
باقيان...
إلى آخر العمر
وما بين أصابعه موج وخلجان.
وقالت شجيرات الحقول...
كان يمر كل يوم، يسقي الجذور خفق صدره
ويمسد الأوراق فترتعش ويسيل
النسغ...
أن يده مجذاف، يجذب مواسم الأرض.
وقال الجنوبيون...
إن هذا إلا قروي...
أنفاسه قمح بيادرنا وجفناه المنجل...
كان أنيسنا نحن الفلاحين...
يقصدنا، يغسل ليل أحزاننا.
يشمّر أطرافه، وينفخ بين أثلامنا فيفرّ الحصى، وتخضر حبيبات التراب اليابسة.
وقالت النسوة...
كنا نغلي امداد القمح...
وندعوه ليبارك فيها...
أو.. نروح نملأ أباريقنا من موج عينيه...
ونقطرها أضعافاً...
ورداً ثم بيادر...
بسمة الفقراء هو...
ما استذكره محب إلا وغناه..
ما اجتمع جنوبيون إلا وكان دفء الكلام...
عشرة أعوام وفوقها اثنين.
ما خطه قلم إلا ودمعت العينان وردتين...
يا فجراً إلى آخر الزمان...
يا خفقاً يسكن كالماء في هدأة...
كالنار غاضب...
ويا صوتاً هو مئذنة الحسينيات...
وقمر الفجريات يضيء في كل حي ودار...
ويمتد إلى قاع الضوء حتى أبعد المسافات...
وقفت أسأل عنه...
هذا المسكون في أجمل الحكايات...
تتجمع أحلام المقهورين في عينيه...
وتوقظ بسمته غفوة المتعبين...
من رآه يمشي..
ظن أنه البحر آتٍ يستلقي عند "مصاطب" الفقراء...
وأمواج تتبعه...
وبراعم البيلسان تطل برؤوسها جنب كل حوض لتشرب نظرته...
الآن دمعه الذي يضيء النجوم من ندى الحقول مشغول،
أم أن دمه وردة هذا الوطن القتيل وشمعته...
مشيت أبحث عنه في زحام العابرين
فما وجدت إلا أشجاراً من خطاه...
نصبت في السماء وجهي، أسرّح وجه الشمس علّها تخبرني عنه...
انطفأ وبقي ارتعاش ضياه..
مددت يدي احفر في الأرض.. وجدت صدوراً مكتوباً عليها...
"راغب حرب"
عشرة سنين وفوقهما اثنتين
وترابه يخفق بين أوردة الأرض...
ينادي... تعالوا نموت في حب الحسين
ومن مثله نادى...
عِمَّةُ يبيت فيها أريج المصطفى...
جبهة من كربلاء...
عينان تختلج فيهما أنهار أحزانٍ وتسبّح مواويل الصمت...
صوت يقرع في الوديان إلى آخر الصدى...
ومن مثله نادى:
"اقتلونا" تدب فينا مواسم حياة أبدية...
وحمله معه.. يوم مشى أقحوان البقاع في دمه، وجاء هو يزرعه على ضفاف الجنوب...
ويلتقي الدم بالدم...
ويتغاوى الأقحوان بالأقحوان..
قالوا له لا تفتح الباب... يا حبيب العمر...
إن فيك اليوم وهجاً يسقط الشمس في أسفل البحار...
وحداء صوتك يومىء للرحيل..
لا تفتح الباب...
إنّا رأيناك تبعد وتلوّح مناديل...
وابتسم...
قال لا توصدوا الأبواب التي توصل إليه...
ومشى كالسيل.. وصار التراب الذي خلفه يمشي أمامه ليحرسه...
اصطفت طيور الجنوب كلها..
وتدلّى الحناء من أعناق الجبال والحقول...
امتد إلى الدروب التي سيعبرها.. حبيب العمر..
وصل..
قال خذوني إلى نبض الآخر...
إقرأ هدأة المقام...
امسح على وجهي من براعم دمه...
ثم أشرب عشب جرحه وأنام..
وجاء إليه...
افرغ كل خلجات روحه وختم.. "سألحق بك"...
وارتعشت الأرض وكل من حوله...
ولو أنهم كانوا يصدقون ما قاله..
لطاروا في المساء يرقبون سيره... لو أنهم كانوا يصدقون...
لأوصدوا الأبواب التي حملته إلى أنهار الدم...
ما صدّقوا...
لكنه قَذف صوته إلى دنيا الفقراء يعتصر أوجاعهم...
بعث الأمل الذي بات يموت فيهم...
دخل معابد الحسينيين يسمع وصاياهم...
ما ترك في الأرض أنّةً إلا أسنها قعر الوجدان...
ما أبصر دمعة إلا التقطتها عيناه نهري أحزان...
ارتدى حزن الأرض...
واغمض جفناه على التعب...
يا حبيب العمر...
إن في عينيك مواويل قرانا لا تغمضها يأتيها النسيان...
وجفناك أشرعة الضوء المستلقية على شطأن الأزمنة..
يا حبيب العمر...
هذا الفجر توقظه مئذنة روحك...
والبسمة حقول تتهاوى فيها مواعيد النصر...
كيف تموت ولك الحياة...
ما صدّقوا...
لكنها الأرض أعلنت مواسم الغضب...
وكل المحبين في حداء ينفجر...
وصدّقوا شيئاً واحداً...
"اقتلونا" تدب فينا مواسم حياة أبدية...
قولوها إلى أبد الأبدين...
لم يمت حبيب العمر.. وإن صوّب الغادر ناره الأثمة...
قولوا لأم تمد أغصان يديها نحو البطل العائد وتشم هامته...
لطفل يحوم في جنبات البيت يفتش عن والده...
قولوا لأوتاد المجد في أعالي القمم...
سيشهد الموت أنه لا يدخل إلى صدور نبية...
وأن الدم الذي يشتعل ورداً وسط النار تخشاه النار...
ستشهد الأرض أن حداءها من نغم همسهما...
وترابها موج وردهما الدائب...
قولوا لأمتي...
المقاومة وردة "عباس وراغب"..