صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

قصة العدد: طيور السنونو

فريدون عموزاده خليلي‏

طيور السنونو*

كنت أنا ومريم والقمر. ما أجملها من ليلة، وما أبهجه من قمر! في تلك الأيام كان كل شي‏ء يثير الإعجاب، كان كل شي‏ء يبدو وكأنه إلهي وعرفاني.

كنت قد اخترت طريقي، بكل ما فيه من صعاب. لا أدري لماذا لم تفهم مريم هذا. كانت تتضاحك بمكر وتلمز قائلة:
"مبروك.... إن شاء الله مبروك على زهراء. لم نكن ندري أن بنات حزب الله أيضاً...." ولم أدر ما أقول.
إذا كانت مريم تفكر هذا التفكير، فماذا أتوقع من سائر أفراد العائلة والأسرة؟ كل مشكلاتي من العائلة، كل العقد كانت هناك، وعلى الأخص أمي التي كانت متصلبة وترفض بشدة.
كنت أود لو أصارح أمي بكل ما في قلبي، بكل ما أحس به في نفسي:
"أمي، كيف سنقف أنا وأنت أمام الله؟ إذا كان المطلوب رضا الله، فالله راض، وإذا كان رضا رسوله فهو راض. يا أمي، هذا حكم الإمام، الإمام هو نفسه قال هذا!..".
ولكني كنت قد يئست من أمي، وحتى أفراد الأسرة كانت قلوبهم تحترق عبثاً من أجلي، وهم يهمهمون ويتهامسون فيما بينهم، وهكذا قلت في نفسي: فلأذهب للتشاور.
وذهبت لأرى مريم، فهي أيضاً كانت ممن اقترحوا الأمر عليّ، وكانت تلك الليلة التي اجتمعنا فيها، أنا ومريم والقمر.

كانت مريم من أقرب صديقاتي وترافقني دائماً، فهي أختي لسنوات، غير أن جرح كلماتها تلك ما زال يؤلمني.
لماذا مريم أيضاً؟ مريم التي تعرف كل شي‏ء عني، مريم التي كانت أقرب إليّ من نفسي. كانت كلماتها أمضى من حد الخنجر. لا أدري لماذا خلا قلبها من الرحمة إلى هذا الحد. لماذا لم تكن تفهم ما أعني؟ لماذا لم تحاول أن تفهم ما أقول؟ أردت أن أقول لها: "مريم، أأنت أيضاً لم تعرفيني خلال هذه السنوات الطوال؟".
غير أن لساني لم يتحرك، وكأن كلمات مريم قد أحالتني إلى تمثال من حجر. كأنها ألجمت لساني ومنعتني عن الكلام.
ولكن ماذا يمكن أن أقول لها؟ فقلبها ليس قلبي. قد لا يكون قلبها من حجر، ولكنه ليس من النار كذلك.
ولعلها أدركت أنني ألتهب ناراً، وأحست أنني أحترق، فقد بدا عليها الارتباك وكانت تحاول أن تهوّن عليّ. ولكن الأمر لم يعد يهمني. لم أكن متألمة من مريم أبداً. كنت أعرفها حق المعرفة، وأفهم كلامها جيداً، فلماذا يجب أن تؤلمني كلماتها؟
كانت مريم "حزب اللهية" وتدرك كل شي‏ء جيداً. كانت قد أوقفت نفسها على الثورة. ولكن لا أدري،، لعلها لم تكن تعرف معنى الكثير من الأشياء. لا تعرف ما هي نار الإيمان التي تشع بكل هذه الحرارة وتحرق.
لا أتذكر أني قبّلت مريم ولا ماذا قلت لها ولا ما قالته لي. ولكني عندما عدت إلى نفسي وجدتني وحدي في فناء الدار مع سِحر القمر.

ما أجمل ضوء القمر! حسناً فعلت مريم بذهابها في هذه الليلة الحالِمة وبتركها إياي وحدي. مهما يكن فهي غريبة، هي ال"غير"، ومن الظلم أن تشوش عليّ دنيا الوحدة.
فأي قرين للقلوب الكسيرة خير من الوحدة؟ وأي معين للقلوب الوحيدة خير من الله؟ وأي حبيب أقرب إليها منه؟ بل منذا الذي كان يستطيع أن يفهم كلامي غير الله؟
رفعت رأسي وكانت السماء قد غرقت في بحر من النجوم، وشلال ضوء القمر كان يصبّ في فناء الدار، ليغمر بيتنا، والمدينة كلها. كانت عين مرتضى تلتمع أيضاً. كانت عينه قد أمست نجمة وكنت أعرف تلك النجمة.
بقيت في وحدتي أحدق وأحدق في السماء، وأحدق وأحدق في ضوء القمر، دون أن تطرف لي عين، حتى فاضت حدقتاي بالدموع، وانحدرت، قطرة فقطرة، من زاويتي عيني، حتى أغرقت وجهي.
ما أعمق الراحة التي أحسست بها في انسكاب الدموع، انسكابها بكل صدق! وما أطهر الدموع المنسكبة من أجل الله! البكاء الذي لم يكن يرى دموعه سوى الله، ولم يسمع نشيجه غيره.
لم أعد أصبر: فخسارة أن أضيع من يدي ليلة طيبة كهذه، هذه الليلة التي هي محضر أنس لأرواح المحتاجين.
جلست عند الحوض وتوضأت، وانحدرت دموعي وأنا أتوضأ، انحدرت دموعي وأنا أقيم، انحدرت دموعي وأنا أكّبر. ووضعت رأسي على التراب وانحدرت دموعي.

كنت أريد أن أرفع صوتي أناديه: يا رباه! أردت أن أطلب منه العون بصوت مرتفع، ولكني لم أستطع، وكأن الآخرين يملأون المكان، وكأن عيوناً غريبة تقف في كل مكان متفرجة. وجمعت الشكاوى كلها، والهموم كلها، والتأوهات كلها، والاستغاثات كلها، جمعتها في مكان واحد، وصرخت بمجامع قلبي، صرخت صرخة مرتفعة مخوفة، لم يسمعها سوى الله. ثم بعد ذلك سألت الله عاجزة. طلبت الجواب على أعتاب رحمته. وما كان أروعه من جواب!
كنت بين النوم واليقظة عندما دخل "بهشتي"1. كان وجهه يسطع نوراً، يبتسم كعادته. يرتدي ملابس بيضاً خفيفة. يتدلّى على منكبه شال أخضر.
بدا جسمه وكأنه من سحاب، من ضباب، لا أدري. ظهر كأن جسده لا يستقر في الفضاء، ولا كانت قدماه تستقران على الأرض. جاء من السماء مرفوفاً بجناحيه. وصل قريباً مني. كنت أبكي، ربما جاء وأنهضني بلطف، ومسح دموعي بشاله الأخضر وقال:
"لا تبكي، بنيتي، لا تبكي".
قلت:
"سيدي، قلبي مكسور".
قال:
"أعلم، بنيتي، أعلم. كنت دائماً مع قلبك. إن شاء الله سوف يستقيم كل شي‏ء، يا بنيتي".
ثم لف شاله الأخضر، الذي أظنه من الحرير، حول رقبتي، وقال:
"هدية من الله، أعطيه لمرتضى".
ثم رفرف بهدوء مبتعداً في السماء.
قلت:
"سيدي، إلى أين؟".
قال:
"إلى النجوم، حيث عين مرتضى".
-
"عين مرتضى؟".
-
"نعم، نعم، بنيتي، أذهب إلى حيث عين مرتضى، تلك النجمة الحزينة في كبد السماء....".
في الصباح أحسست بأنني خفيفة وكل كياني قد غمره الهدوء والاستقرار. لم يعد قلبي يحترق في النار. كان قد هدأ، هدأ واطمأن.

نعم، كان الله قد دلّني على طريق الخير. والنجمة الحزينة التي نظرت إليّ من السماء كانت تنتظرني، تنتظر هدية الله التي كان عليّ أن أسلمها له.
وأصابت أمي الدهشة فقد كانت حالتي تثير ذهولها:
- "أمي، ظهرت نتيجة الاستخارة بالإيجاب".
- "أي استخارة، يا ابنتي؟ متى استخرت؟".
- "أرجوك أمي، لا أريد أن تعيدي نفس كلامك السابق علي". ولكنها لم تكن تسمع ما أقول.
- "عزيزتي، أليس من الحيف أن تضيعي نفسك؟ سيأتيك الخاطبون بالآلاف. أتدرين كم من نساء الأسرة يلمّحون لي عنك لأبنائهن؟ لا أدري ما الذي ينقصك عن الفتيات الأخريات؟ فمن حيث الدراسة أنت متعلمة ومن حيث الحجاب والحياء، فأنت على كل ألسنة الجيران، كما أنك لست قبيحة... أتدرين ما سيقوله الناس إذا سمعوا؟
لقد أثقلت رأسي بكلامها ولكن ماذا أقول؟ ماذا أقول لأمي؟ ماذا أقول للناس؟ كيف أستطيع أن أفهمهم أن هناك أيضاً حباً لله ومن أجله؟ أوَ لم يكن مرتضى نفسه عاشقاً؟ ألم يضع كل ما يملك تحت أقدام حبيبه؟ ألم يهدِ كل شي‏ء لمعشوقه؟
- "يا أمي، لماذا يجب أن أطمع في مال الله؟ والله، يا أمي، إنني لا أجرؤ أن أتمنى تلك العين وتلك اليد اللتين هما الآن من مال الله.
يا أمي، إن عينه تضي‏ء السماء في كل ليلة، وأن يده تحمل الشهداء في كل ليلة! ها، انظري، انظري! تلك هي يده في السماء!".

تطلعت أمي لحظة إلى السماء، ثم عادت تنظر إليّ، حالتها غريبة. في ملامحها غير المصدقة يختلط كل شي‏ء: القلق، والعطف، والشفقة، واليأس. الدموع تترقرق في عينيها. أهي دموع العطف أم الغم؟ لا أدري. تحتضنني بقوة وتبكي بصوت مرتفع:
"بنيتي... بنيتي، أنا لا أريد سوى سعادتك وهنائك. أنا أعرف مرتضى شاباً متديناً، رزيناً، وقوراً. ولكن، يا بنيتي، أنا إنما أفكر في غدك. يعلم الله أن طعم الحياة سيكون كالعلقم في فمك. الإنسان يريد أن يحيا عمره، فينبغي أن لا يستعجل في اتخاذ قراراته. ماذا عنده حتى سحرك هكذا؟".
في الحقيقة أنا نفسي لم أكن أدري. لم أكن أدري لماذا أنا متعلقة بهذا الموضوع إلى هذا الحد.
قلت: "حبيبتي أمي، لقد فكرت في كل الحالات، ووزنت كل شي‏ء، واتخذت قراري. أمي، قسماً بالله لا يسعد ابنتك غيره. أنا لا أشعر بالسعادة إلا معه، يا أمي".
وأخذت أمي تنظر إليّ غير مصدقة، وانحدرت دمعة من عينها وتدحرجت على وجهها.
قلت: "أمي!...".
نظرت إلي وقالت: "أنت تعلمين...".
فانطلقت مني صرخة لا إرادية، واحتضنتها وأغرقتها بقبلاتي. كان طعم دموعها مالحاً جداً.

كل الذين رأوه في الجبهة يحكون الحكايات الكثيرة عن روحه الكبيرة. فقد كان يقضي الساعات الطويلة في الخندق، يحدق بعينيه الضاحكتين إلى الغروب ودموعه الرائقة تنزلق على خديه وتتساقط على الأرض، شفتاه في همهمة خافتة، كان يذكر الله في كل شي‏ء، كان مرتضى في الجبهة كالأخ الأكبر وكالأب العطوف.
وأنا التي كنت أسمع كل هذا وغيره من الآخرين، لم يكن جسمي يسعني من الفرح، لقد كان مرتضى كما كنت أريده، كأن روحه روحي، ملتهبة، متمردة، لا يقر لها قرار.
- "إنهم يقولون أن قنبلة أطاحت بيديه".
- "فليكن. يداي باقيتان".
- "عينه. إحدى عينيه لا ترى".
- "فليكن.إحدى عيني تريان".

الزمن يمر ببطء، والقلق يغمرني وانتظاري حسبته بلا نهاية، متى يأتي ذلك اليوم؟ ذلك اليوم الذي نجلس فيه متقابلين لنتبادل كلماتنا الأولى. لقد أصبح قلقي وتعجلي الزمن على ألسنة الجميع. حكاية عجلتي غدت حكاية الأخوات اللواتي أعرفهن. وحتى اللواتي كنّ هنّ المتقدمات بالاقتراح أبدين تعجبهنّ.
ولهذا قالت مريم ما قالت في تلك الليلة التي كنت فيها معها والقمر. وكان هناك كلام قالته كثيرات من الأخريات كلما التقيتهن، وكلّما التقين أمي، أو التقين مرتضى. ومع ذلك كانت الأمور تسير بشكل جيد. فقد أعلنت أمي رضاها، مكرهة وقلقة. وكنت أنا أنتظر بلهفة ذلك اليوم الذي يرضى فيه الله، وترتسم البسمة على شفتي الإمام.
كانت عيناي تحدقان بالباب، وفي داخلي عاصفة هوجاء مضطربة. دقّ الباب، فكاد قلبي يتوقف، وضعفت رجلاي. دخلت مريم وأخوها، يحملان رسالة مرتضى:
- "لا".
وأمسكت الغصة بحلقي، وأحسست بقلبي ينقبض.
- "لماذا، لماذا، لماذا لا؟".
وقالا ما قاله مرتضى: "هذه الأخت كبيرة التضحية، ولكني لا أريد أن أضيع حياتها. أي شخص غيري يستطيع أن يسعدها. بلّغاها سلامي وقولا لها: سيرضى الله عنها، إن شاء الله...".

استولى الارتعاش على جسدي. يا إلهي، مَن هو مرتضى وماذا كنت أتخيل؟ لماذا تخيلته ضعيفاً محتاجاً؟ يا إلهي، هل كان من أجلك كل ذلك التلهف أم من أجل نفسي؟ لماذا ظننت أني أنا المفضلة عليه وأنه سيتوسل إلي كي أقبل به؟ وشككت في نفسي، في تلهفي، في استخارتي. وبصحة ما كنت مقدمة عليه.
وانتابني شك لا يرحم. أحقاً كان عملي في سبيل الله؟ إذا كان، فلماذا خطر لي هذا الخاطر الأثيم، هذه الفكرة الشيطانية؟
إلهي، مَن هو مرتضى ومن أنا؟
وسألتني مريم:
"ماذا نقول له يا زهراء، ماذا ستفعلين؟".
رفعت رأسي وحدقت بنظري في مريم. كنت قد فكرت في كل شي‏ء.
كانت يداي ترتجفان، وكان قلبي يكاد ينخلع من مكانه. دفعت نفسي فوق درجات السلّم بمشقة. كانت رجلاي قد خارتا. وقادتني مريم.
الجلسة الأولى والوحيدة التي عليّ أن أقابله فيها قبل العقد. كانت مريم وبعض الأخوات قد أعددن للأمر عدته، في بيت مريم نفسها.
عندما توقفت على عتبة الباب، رفع رأسه بهدوء. نظرت إليه خلسة. وإذ وقع بصري على ذراعه اقشعر بدني، وإذ تجلّت ملامحه، انهار قلبي دفعة واحدة.
كنت قد اجتهدت كي أهيئ‏ نفسي لرؤية أي شي‏ء، وجهه وعينيه ويديه. ولكن الحقيقة كانت أقسى من الخيال. كانت إحدى عينيه حفرة عميقة وقد ذابت حدقتها، والتصقت الأجفان منطوية داخل تجويف العين.
وددت لو أني لم أر عينه. وددت لو أنه أخفاها تحت نظارته السوداء. ولكن لماذا رفع نظارته؟ لعل صفاء نفسه حمله على أن أرى منذ البداية وجهه وكل شي‏ء.

كان في حالة انتظار. استجمعت أطراف شجاعتي، وتمتمت:
"سلام". وخرجت ضعيفة مرتجفة.
وكان صوته مرتجفاً أيضاً عندما ردّ التحية: "سلام عليكم، أختي!".
قام أخو مريم وقال مرحّباً: "أهلاً بك، أخت أحمدي. تفضلي. هذا هو الأخ مصطفوي...".
ترددت. كان نَفَسي قد انقطع، وحاولت الجلوس حتى تمكنت، فجلست. سرعان ما انتهى الحديث بيننا، كل الذي كنت قد حفظته في الطريق وما كنت قد سألت عنه الصديقات طار من مخيلتي. كان صوتي مرتعشاً، والخجل مرتسماً على وجهي. هو أيضاً انتهى مما عنده، ولميعد لدينا ما نتحدث عنه. كل كلامنا قد انتهى على عجل.
نظرت من النافذة إلى الزقاق. إلى الغروب في الزقاق، والجدران الطينية في الزقاق، وأجنحة طيور السنونو التي اصطفت على سلك الكهرباء في الزقاق كانت قد تلوّنت بلون الغروب النحاسي.
- "بم تفكرين؟".
انتفضت في مكاني. الكلام الرسمي قد انتهى. كل ما كنت حفظته. والآن كان لا بُدَّ من أن نقول شيئاً آخر.
تطلعتُ إلى وجهه. أردت أن أسرق عيني منه، ولكني لم أفعل. كان لا بُدَّ من أن أجيل عيني فيه بتمعن، فقد كان علينا أن نبقى سنوات معاً، وأن نعيش متجاورين دائماً.
ما أشد جاذبية وجهه! فعلى الرغم من أن موت إحدى عينيه جعل وجهه غير جميل إلاّ أن فيه جاذبية تجذب المرء كالمغناطيس. كان ما يزال ينتظر الجواب على سؤاله.
قلت: "طيور السنونو مصطفة، وكنت أتفرج على الغروب. إنه يذكرني بكردستان".
أدار رأسه بهدوء، وكأنه يريد أن يتفرج على ما كنت أتفرج عليه. حدّق في حمرة الشفق في الزقاق. لا أدري إن كان قد رأى شيئاً أم لا، ولكنه تمتم قائلاً:
"نعم، إنه لجميل حقاً. الغروب في الجبهة كذلك. لقد أحببته كثيراً. المرء تنتابه حالة غريبة هناك. حالة من الغربة والوحدة وأشياء أخرى. كأنك مع الوجود كله. ولكنك إذا نظرت جيداً لن تجدي أحداً إلى جوارك. إنها الوحدة. ثم تنظرين مرة أخرى لتتصوري أن العالم كله معك، الملائكة والشهداء والأئمة والأنبياء.
أختي! أنا إنسان غريب، فأحياناً أخاف حتى من نفسي، وقد أتصور إني مغال دونما سبب. أتدرين يا أختي، أحياناً أتصور إنني لا أحب أحداً في العالم قدر حبي للإمام. أنا أعشق الإمام. في الخندق عندما كنت أنظر إلى صورة الإمام كنت أتصور العالم كله معي".

أردت أن أحادثه بمثل حرارته، ولكني لم أدر ما أقول. يا سيد؟ مرتضى؟ سيد مرتضى؟ سيد مصطفوي؟... أو، أخي. هو قال: أختي، فلا بُدَّ لي أن أقول: أخي.
فقلت: "أخي، ليست القلوب كلها هكذا".
هزّ رأسه فحسب، وعاد الصمت يخيم في جو الغرفة. كنت أحب أن يستمر في حديثه، أن يحدثني عن نفسه، لكأن في صوته السحر، لكأن كلماته تمتزج بما يشبه سحراً غريباً، وتنبعث من وجهه ومن تلك العلين المظلمة أمواج ضوء مقدس.
رفع رأسه، وتحركت شفتاه، ثم عاد رأسه إلى الانحناء، وكأنه كان يخشى مما يريد قوله، ولعله كان يبحث عن الكلمة، ثم رفع رأسه ثانية وقال: "أخت أحمدي، هل فكرت في كل شي‏ء، هذه عيني عمياء ومرعبة، وهذا وجهي قبيح وخشن، وهذه يدي، مقطوعة كما ترينها...".
قلت بهدوء: "فكرت في كل شي‏ء أخي".
قال: لا... لا، أختي قلت لهم من قبل أن يقولوا لك، إنك قضية عمر. أنت ما زلت شابة، كل شاب يستطيع أن يسعدك، هناك الكثير من الشباب خير مني وأقوى إيماناً. فلا تضيعي حياتك من أجلي، أنا لا أملك شيئاً أقدمه لك. أنا لا أجلب لك في البيت سوى العناء والألم.
أخت أحمدي أتدرين؟ إنك أخت فيك الإيثار والتضحية. أنت مثل إبراهيم الذي أراد أن يضحي بإسماعيله. ها أنت تخرجين من الامتحان رافعة الرأس. وهذا يكفي فلا الله يريد بأكثر من هذا، ولا الإمام، ولا أنا نفسي أرضى أن تضحي بحياتك ومستقبلك من أجلي.
يا أختي زهراء، أنت ذات قلب كبير، ولكني لا أستطيع أن أقبل بذلك... لا تضيعي حياتك!...".

عندما دخل الإمام انخلعت قلوبنا، ونهضنا جميعاً على أقدامنا دون اختيار. أسرع مرتضى وأبوه نحو الإمام وقبّلا يديه، أما نحن، أنا وأمي، فقد اغرورقت عيوننا بالدموع.
عندما جلس الإمام أطرق برأسه، ثم رفع رأسه وأجال بنظرته السريعة النافذة فينا للحظات، وعاد إلى وقاره وسكينته مرة أخرى، قرأ صيغة العقد، ثم رفع رأسه بهدوء شديد ونظر إلينا بمحبة متناهية، حتى تخيلت أنه الشمس تشرق من وراء جبل وتغشي أبصارنا.
ثم تحدث معنا حديثاً أبوياً مختصراً، لقد ملأ الإمام بوجوده مكان أبي الذي كان قد توفي منذ سنوات قال:
"مبروك إن شاء الله، عملكما هذا من أجل مرضاة الله، ولقد جلبتما بعملكما رضا إمام الزمان، وأفرحتما قلبه. فلتكن بينكما مودة، كونا صديقين متحابين. أسأل الله أن يرزقكما ذرية صالحة، وفقكم الله..."
كلمات الإمام ألجمت ألسنتا فلم ندر ما نقول وما ينبغي أننقول، وفجأة انفجرت أمي باكية.
"سيدي، اغفر لي! يا ولدي مرتضى، اغفر لي! بنيتي زهراء، اغفري لي. كنت أريد أن أمنع سعادتكما! أسألكما بالله أن غفرا لي! سيدي الإمام أقسم عليك بحق جدك أن تشفع لي عند الله...".

أجهشنا جميعاً بالبكاء دون إرادة غرفة الإمام الصغيرة بدت وكأنها بيت الأحزان، وانعقد حاجبا الإمام بألم، وسرت في شفتيه رجفة خفيفة، فأدار وجهه بسرعة وخرج من الغرفة.
وفجأة شعرنا أننا وحدنا في الغرفة كالغرباء. أردت أن أنهض لألحق بالإمام وألقي بنفسي على قدميه وأبكي... ولكن الإمام كان قد ذهب، ولم يبق سوى الغرفة ونحن.


* مترجمة عن قصة فارسية بعنوان: (برستوها).
1 الشهيد الدكتور آية الله محمد الحسيني البهشتي مؤسس الحزب الجمهوري الإسلامي.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع