فاطمة مراد
فكّت الغصن الذي بدا وكأنه سينكسر. نظرت طويلاً إلى قطعة القماش الحريرية، من فستانها القديم، الذي لفّته بها، والتي تضاءل حجمها. احتضنتها، واتسعت ابتسامتها كنهر فرح.
دخلت لتخبر زوجها "أبا ياسر"، فاصطدمت بوجهه المكفهرّ، ونبرته الساخطة:
- إنهم يتحدّثون عن بطولاته، هاه!
- لا تصدّق ولو رأيته بأمّ العين.
وأكملت بهدوء:
- يريدون أن يميتوا قلوبنا، ويزعزعوا ثقتنا..
همّت بإخباره، لكنها عادت وتراجعت حينما استدار، وجحظت عيناه، كمن يلفظ أنفاسه ولا تستجيب له. أمّا هي، فمشت على مهل، كصنوبرة لا تهزها العاصفة. هي تدرك جيداً أنها زرعت في التربة الصالحة، حيث يطلع النبات معافى.
وتمتمت: ياسر.
ثم سرحت نحو البعيد، وجالت بناظريها على القرى، ذرفت دمعة حارّة، وانهالت اللعنات على الصهاينة، والعملاء، وكل فاجر.
في ساعات الصباح الأولى، أيقظها دويّ رصاص، وأصوات قنابل. راحت تضيء نهاراً جديداً، يشرف على مقاومة، تمهّد لانبلاج النور الصادق، المشرف على تحرير الأرض من الدنس، والنفوس من الأسر والعجز.
ارتدت ثيابها على عجل، بعد أن خرج "أبو ياسر" إلى الحقل، لاقتلاع الأعشاب التي شرعت تتطاول، وتتزايد. لم تجد المختار، ودارت على بعض البيوت التي يرتادها، فوجدته، وبلهجة فيها انفعال قالت:
- بإذن الله، سيعود ابني "ياسر"، ويرفع رؤوسنا جميعاً.
- إن شاء الله.
- سيعود، وليعلم الجميع أن ابني لا يتآمر، ولا يتعامل. ابتعدت وهي تهز كتفيها، وتخاطب نفسها بحديث يعجز مَنْ حولها عن فهمه.
الأيام تمر ببطء، و"أبو ياسر" يتجنّب أهل القرية كمذنب متلبس، و"أم ياسر" تدعو، وتقنت، وتنتظر، ووخز في صدرها يوجعها، ويتركها فريسة للحيرة.
- "ترى ماذا لو كنت مخطئة؟ ولكني واثقة كل الثقة".
لفّت منديلها جيداً، وخرجت إلى الحاكورة. اقتربت من شجرة التين، تلمست الغصن، وقطعة الحرير.. وهمست:
- "ماذا لو كنت مخطئة، وماذا لو..."!
تيبّست العبارة في حلقها، كزهرة يوشك أن يغادرها الرحيق، حين تهيّأ لها خيال "ياسر"، وهو يهجم على البيوت ويروّع ساكنيها، ويطارد أطياف الثوار، ويأسر بأسهم بخسّة.
تهلّل وجه "أبو ياسر" بعد مدة. ودبّت الحياة في قسمات مرآته، حيث استقر ابنه فيها. لون العينين ذاته، والإباء المودع فيهما، يدلّان على حمله لنبأ يثلج الأوصال، يبرّدها.
لكنه يؤثر الصمت، فالأمر على خطورته، لا يحتمل الخوض فيه. هذا ما لمسته حينما ألحّت عليه بسؤالها، وقام بإسكاتها. فسكتت مستسلمة إلى صورة "ياسر"، في وجه أبيه، وهي تتوهج بنورٍ بهيّ.
في عتمة الليل انسلّت، وابتعدت ناحية الكرم، جهة أطراف القرية، في الوادي المجاور.
وجلست تحت الزيتونة، تترقّب رؤيتهم، فالعديد من أهل القرية شاهدوا أطيافهم، وهم يمرّون من هنا.
لقد خرجت في هذا الليل، لتشم رائحة ابنها في المغادرين، من ضفة في القلب، إلى قلب ساحات الجهاد، فهو بينهم بلا ريب.
الدقات تتسارع، وهي تسمع حفيفاً للشجر المتدلّي. ما إن ترفع رأسها، حتى تُصوَّب إليها بندقية!
فتصيح: يا ابني، يا ابني.
يجيب المقاوم على عجل: ماذا تفعلين هنا؟ يؤمّن لها الحماية، وتعود أدراجها؛ وقد فاحت رائحة "ياسر"، تضيء درب العودة الوعر، لتعود في اليوم التالي، إلى المكان نفسه، وتحت شجرة الزيتون تقف، وتهزّ شالاً حريرياً بيديها تلوّح به لموكب ابنها الشهيد، القادم بعد قليل.
فـ"ياسر" لم ينتظر، بعدما جُرَّ للتجْنيد غصباً، فرّ سريعاً. العملاء كانوا أسرع. استشهد على أيديهم، بعد معركة طويلة. وجده بعض الفلاحين، في الوادي المجاور، وإلى جانبه ذخيرة ملفوفة بقماش.
أعياه الفراق، فمزّق من أشلاء الحرير، من فستان أمه، على الغصن المنكسر، يداً أسندت رأسه المتعب. كانت مبللة بالدم، والآثار سطور، قرأ الناس فيها أروع أداء للمقاومة.