آية الله ناصر مكارم الشيرازي
إن كل إنسان يواجه في حياته بنحو من الأنحاء مسألة "الإدارة"، من أعلى المراتب حتى أدناها، لا فقط السياسيون والوزراء والقادة ورؤساء الجامعات والمديرون الإداريون ومحركو عجلات المصانع والمؤسسات الخاصة، بل كل إنسان في حدود تحصيله للمعاش في علمه وبيته وعائلته له تعامل مع نوع من الإدارة، بحيث أنه لو تم إنجازها بشكل صحيح فإن اختصار الطرق والقيام بنشاطات مثمرة والعمل بسعي جيد ووقوعٍ مشاكل قليلة والنجاح والتوفيق... كل هذه تصبح أموراً قطعيَّة.
على عكس ما يفكر به البعض فإن المشكلة الأساسية في مجتمعنا ليست في قلة المواد وإنما هي مشكلة ضعف الإدارة بحيث أننا لو قمنا بحركة إصلاحية في داخلها باستلهام من الأسس المعنوية للإسلام وتعاليمه الجامعة لأمكننا بسرعة أن نجبر الضعف بعون الله ونتغلب على المشكلات ونتقدم بالثورة. إن الإدارة هي روح التشكيلات التنظيمية وأساسها. والإدارة التي تقوم على أساس الأخوَّة الإسلامية، لا على الإشراف الغربي والشرقي، هذه الإدارة هي التي تبرز الطاقات الكامنة والنوابغ، وتربّي الاستعدادات وتجعل الحركات والنشاطات منظمة وسريعة وفي قناة واحدة.
● أرضية البحث
في بداية البحث ينبغي أن نلتفت إلى أن الإدارة والقيادة هي نوع من العقيدة "الأيديولوجي": فالإدارة عبارة عن مجموعة من الواجبات: المدير يجب أن يكون هكذا، والقائد بهذا الشكل، ووظيفة القائد تلك، ووظيفة المدير ذلك... ونحن نعلم أن "الواجبات" تنبع دائماً من "الموجودات" أي من الرؤية الكونية. فنحن إذا لم نحدد واقعيات الموجود فلن نستطيع أن نحدد الوظائف اللازمة له. فما لم نعرف "الموجودات"، لن نعرف "الواجبات".
لسنا هنا في صدد البحث بشأن العلاقة ما بين "الرؤية الكونية" و"العقيدة"، وأنه أي نوع من الارتباط بينهما؟ ولكن نكتفي هنا بالقول أننا أتباع هذه العلاقة. نحن نعتقد أن "الواجبات" تنبع دائماً من "الواقعيَّات"، وأنه يوجد علاقة محكمة ومنطقية ما بين "الرؤية الكونية" و"العقيدة".
بناء على هذا وبما أننا نتفاعل مع سلسلة من "الواجبات" في الإدارة والقيادة، ينبغي أن نرى أي واقعيات ينبغي أن تولّد هذه الواجبات؟ وبما أن الإدارة والقيادة الإسلامية هي المطروحة فبالطبع أن الرؤية الكونية سوف تكون الرؤية الكونية الإسلامية.
في عرضنا لهذا البحث سوف نلقي نظرة إجمالية إلى عالم الوجود، ونظرة إجمالية أيضاً إلى القرآن لنحصل على رؤية كونية مضغوطة، ثم نقوم بالبحث حول الإدارة والقيادة والواجبات والمحرمات في هذا المجال. ولأجل الاطلاع على ضرورة التشكيلات والتنظيم في تقدم الأهداف الاجتماعية الكبرى، ينبغي قبل كل شيء المسير في "الآفاق" و"الأنفس".
في البدء نلقي نظرة إلى عالم الوجود الكبير فنرى أن مجموعة عالم الوجود هي عبارة عن نظام عظيم من التشكيلات. وبتعبير آخر نرى أن هذا العالم هو إدارة كبرى تدار بواسطة مدير مقتدر وعظيم ومطلق الاطلاع.
الملفت أنه من بين صفات الله الواردة في القرآن المجيد ذكرت كلمة "الرب" بنسبة أكبر من باقي الصفات (تكررت هذه الكلمة حوالي 1000 مرة أي بنسبة مرة كل ست آيات). ونلاحظ أن بعد اسم الجلالة "الله" الذي يشير إلى الذات الجامعة بجميع الصفات الكمالية والتي ذكرت في حدود 2700 تأتي كلمة الرب.
أرباب اللغة ذكروا معان كثيرة لكلمة الرب، من ضمنها: مالك، مدير، مربي، قيّم، منعم، حيث يرى بوضوح من معانيها مسألة الإدارة. والبعض الآخر أطلق على هذه الكلمة معنى "المالك المصلح" بحيث ينعكس فيها موضوع الإدارة بشكل أوضح.
ما يلفت أن الكلمة عندما تستعمل بصورة مطلقة وبدون أي قيد إنما يكون ذلك في مورد الله، ولكن كلما أردنا أن نجريها في مورد المخلوق، وجب أن نضيف إليها شيئاً رب الدار، رب البيت.
بعد هذه الرؤية للقرآن، عندما ننظر نرى الله بصورة قائد ومدير لكل عالم الوجود. فنستنتج أن عالم الوجود هو عبارة عن إدارة وتنظيم عظيم على رأسه الله. بناء على هذا تقول لنا الرؤية الكونية الإسلامية أن كل العالم هو نظام واحد وإدارة واحدة مديرها هو الله سبحانه وتعالى.
من زاوية "الرؤية الكونية التوحيدية" فإن مجموع العالم هو واحد لا أكثر وهو مرتبط فيما بينه بانسجام وتحت حاكمية "الله". يقول القرآن: ينبغي للمسلمين أن يطبقوا أنفسهم مع نظام العالم الكلي:
﴿والسماء رفعها ووضع الميزان﴾
ثم وبلا فصل يقول: ﴿ألاَّ تطغوا في الميزان﴾.
أي أنكم أنتم قطرة من هذا المحيط المطلق وذرة من هذه الأرض الفسيحة، وجزء صغير من هذا العالم الكبير، أيمكن أن تكونوا مستثنيين من النظام الحاكم عليه وتعيشون بدون حساب ولا جزاء؟! أيمكن أن يكون هناك وصلة غير منسجمة في هذا العالم؟
في الأصول، إن أهم أدلة معرفة الله التي يستند إليها الفلاسفة والمتكلمون، وحتى أن أكثرية الآيات القرآنية التوحيدية تدور في محورها، هي "برهان النظام" الذي يستدل من خلال الإدارة المنظمة للعالم على وجود المدير والمدبر والقائد القادر والعالم. بحيث لو لم يكن هناك إدارة لله في ما وراء هذا العالم لبقي وجوده سبحانه غير معروف لا فقط ذاته المقدسة بل أكثر صفاته العظيمة التي تعرف من خلال هذا النظام الموجود وإدارته العظيمة.
جميع الكتب التي ألفت في الفروع المختلفة للعلوم، وتحدثت عن النظم في عالم الوجود وعن خلق المنظومات والمجرات العظيمة من الأسرار المحيّرة وأنواع الكائنات والنباتات... كلها جميعاً تحكي عن الإدارة الدقيقة والقيادة المنظمة لله في هذا العالم الكبير.
● الإدارة الجيدة شرط أساسي للقائد الناجح
* وجود كل إنسان يشكل نظاماً بديعاً:
وإن كان يمكننا أن نستمر في هذا السير الآفاقي طوال عمرنا دون كلل ولكننا نتركه الآن ونقوم بالسير الأنفسي، وننتقل من العالم الكبير إلى العالم الصغير: أي الإنسان، الذي يقول فيه أمير المؤمنين عليه السلام أنه اختصر العالم الأكبر.
بناء الوجود الآدمي أيضاً هو عبارة عن نظام تشكيلات دقيق للغاية ومعقد بحيث يمكن أن نجد فيه جميع التشكيلات اللازمة لأجل إدارة صحيحة وبحيث يمكن أن يعتبر نموذجاً بأعلى صورة. هذه التشكيلات المميزة والمنظمة لها هذه الأقسام:
1 مركز القرار.
2 قادة وإداريون عامون وفرعيون.
3 أقسام إجرائية.
4 دوافع الحركة.
5 التخطيط والتنظيم.
6 الإشراف والسيطرة.
بحيث أنه لو تعطل جزء من هذه الإدارة لأدرك الموت هذا الإنسان أو مرض على الأقل.
بهذا الدليل ولأجل الاطلاع على الأصول الصحيحة للتشكيلات والضوابط في قضية الإدارة والقيادة، لا يوجد طريق أفضل من هذا وهو الاستلهام من هذين العالمين الأكبر والأصغر وبذلك تحقق أوامر القرآن العظيم:
﴿وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ (الذاريات/ 20-21).
* وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
إن تكليف الإنسان الموحد والملتزم والواعي هو أن يتعرف قبل كل شيء على ذاته والعالم الذي يعيش فيه، ويطّلع قدر الإمكان على الأصول والأنظمة التي تحكم هذا العالم الوسيع ثم يطبق ويجري هذه الأصول في حياته الاجتماعية. فأكبر وأعظم سبب للفلاح هو معرفة تلك الأنظمة التكوينية وإجراء السنن الإلهية في الأنظمة التشريعية.
لا يمكن للإنسان أن يعيش بشكل غير موزون وبصورة قطعة غير منسجمة في عالم الوجود هذا، وبالقدر الذي يبتعد فيه عن النظام والإدارة الصحيحة بقدر ما يقترب من الهزيمة والفشل والشقاء.
وإذا تجاوزنا كل هذه الأمور، نجد من خصائص حياة الإنسان أنه في كل أعماله الأصلية والمهمة يؤديها بصورة جماعية، والعمل الجماعي لا يكون بدون نظام وإدارة إلاَّ عبارة عن حرج ومرج وهدر للطاقات وإتلاف للإمكانيات.
لو فرضنا أن جميع الوصائل والأدوات اللازمة لإجراء عمل ما هي بمنزلة "الجسم" فإن الإدارة الصحيحة هي بمنزلة روح ذلك الجسم، وبفصل الروح عن الجسم لا يكون سوى جثة هامدة.
يشبه أمير المؤمنين علي عليه السلام دور القائد والمدير في المجتمع بالخيط في الخرز، يقول عليه السلام:
"ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز، يجمعه ويضمّه، فإذا انقطع النظام تفرّق الخرز وذهب ثم لم يجمع بحذافيره أبداً". نهج البلاغة.
والإدارة كما سيأتي في البحوث الآتية توجِّه القوى. ثم الدوافع والأهداب والتنظيم والسيطرة والانسجام، كل هذه الأصول تأخذ بُعدها الحقيقي في ظل الإدارة.
والخطاب الشهير للإمام أمير المؤمنين عليه السلام والذي قاله في آخر لحظات حياته يعد أساساً للحياة ولكل أتباعه:
"أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم...". نهج البلاغة.
وما جاء في القرآن الكريم في سورة النور حول المؤمنين الصادقين:
﴿إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه﴾. (النور 62)
يبيّن دستوراً من الانضباط في التنظيم، وهو إعمال قضية الإدارة حتى ينعكس ذلك في مسألة الحضور والغياب. وفي الآيات التي تليها جاء أن لا تدعوا الرسول كما تدعون أنفسكم ولا تقولوا يا محمد، بل يا رسول الله، وهو ما يبيّن مقام قيادته:
﴿ولا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً قد يعلم الله الذين يتسلّلون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾. (النور 63)