زينب شمص
فيها دارت رحى الحرب في تموز 2006 وفيها كانت نهايتها، فالضربة الجوية الأولى وجّهت إلى حسينيّتها، وبعد سريان وقف إطلاق النار تعرّضت لعملية إنزال جويّة إسرائيليّة مُنِيت بالفشل والهزيمة حيث هرب من تبقى من أفراد الوحدة، يجرّون أذيال الخيبة والعار على أيدي أبطال المقاومة الإسلامية، فأُضيف بذلك إلى سجلّ المقاومة رمزٌ آخرُ للبطولة والنصر.
تلك القرية الوادعة التي تتكئ على كتف سلسلة جبال لبنان الغربية تهمس لسهل البقاع المشرفة عليه بأنها عصيّة على العدو، وشامخة بشموخ أبنائها؛ وبين بيوتاتها الطينيّة تتسابق النّسمات المنعشة لتناجي أشجار الزيتون، وكروم العنب، والتبغ، وبيادر القمح، والسنابل والحقول مع قدوم تموز العزة والإباء.
كيف لا، وهذه القرية الصغيرة قد تعرّضت لأعتى الضربات الجوية القاسية من العدو الغاشم.
أيام حرب 33 يوماً لا تُنسى، حيث "بوداي" كشقيقاتها الجنوبيّات من القرى، معنيّة بامتداد لهب نار الحرب. وبالمقابل، بالتصدي، والإرادة والعزم على المواجهة والصمود.
وليالي حرب تموز القاسية يتحداها الشرفاء، كالحاج أبو أحمد حين يجني من حقله ما تيسّر له من الخضار لتحضير الإفطار البسيط، فالشهر هو رجب الأصبّ. يقف قبل الإفطار، وبصوته الجميل، على شرفة منزله مرتّلاً الأذان وصداه يتردّد في الأجواء متحدياً هدير الطيران الحربي الذي لم يغادر الأجواء قطّ طيلة الحرب تلك الليالي. وبعد الصلاة، والدعاء، والابتهال إلى الله بالنّصر كنا نجتمع في داره، وفجأة يعمّ السكون في القرية، حتى النسيم يهدأ وتتوقف أغصان الأشجار عن التمايل، لا حركة ولا صوت، ما الخبر؟؟
إنه خطاب الأمين العام (حفظه الله) والجميع مشدود للتلفاز، تعلو عيونهم دمعات العزّ والفخر بما يتلوه السيد وتعلو صيحات التكبير، والدعاء، والتلبية حينما يعدنا السيد بالنصر.
ما هي إلا ساعات حتى بدأ العدو بعملية إنزال في مدينة بعلبك القريبة من "بوداي" فاختلف المشهد. الكلّ خرج من بيته، فقد حمل الرجال بنادقهم يطلبون من المقاومة الإذن في المشاركة والتصدّي للعدو. وكان الحاج أبو أحمد يجول بين أبناء المنطقة عاصباً حاجبيه بالكوفية، منحنياً على بندقيته التي حان وقت استخدامها وهو يصرخ بأعلى صوته: "خزان المقاومة لا يفرغ، ولن يدخلوا بيوتنا أبداً".
في ساعات الفجر كان صدى صوت تلاوته للقرآن يتردد في الجو. أما أيامه فيقضيها صائماً، وتراه راكعاً ساجداً. فيما يمضي الليالي قائماً يصلي صلاة الليل ويقصد المسجد مع أبناء البلدة، بالرغم من الخطر. وبعد الظهر، كنا نجتمع فيقوم بقراءة مجلس عزاء حسيني فيما ابتسامته وكلماته كانت تبشرنا بنصر حاسم وأكيد وكان يردد دائماً: "أيّها الناس لا تيأسوا وأنتم ترون أنّ كلّ الدنيا وقفت ضدّنا ولا تنسوا أنّ الله معنا".
بعد نهاية الحرب بفترة توفي الحاج أبو أحمد، فودّعته قريته بأسى شديد فهو زخم الصمود والأمل حيث لا يأس، فقد فقدت شيخها المقاوم. ولكن هذه الأرض ورثت صمود أهلها وعنادهم وحملته أمانة لأولاهم وأحفادهم... وهي ما زالت تزفّهم شهداء.