مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

علي بلسان عليّ

الشيخ كميل شحرور


تنساب الكلمات منحنيةً أمام عظمته، وتتناثر الحروف هرباً من جلال هيبته، وتخجل الأفكار من نسج معانيه. تراك تقف حائراً: من أين أبدأ؟ وكيف أصف؟ كيف الوصول إلى شاطئ معينه؟! بل كيف يكون الإبحار في بحر حكمته؟! طودٌ شامخ هو... كتب التاريخ فيه أسطراً ولم ينته... وحفظته الأيام في دروسه وعِبَره، وكان كما كان... هو، ثلاثة حروف تكوّنت لتحكي عظمة خالدة (علي) بن أبي طالب عليه السلام. بهذه الأسطر... سنترافق مع علي عليه السلام، في بعض مواقف حياته، لنستمع لعليّ نفسه، كيف يصفها، وكيف تعامل معها.

*مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منذ الولادة
مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت البداية، منذ الولادة كان في كنفه إلى البلوغ، فالرشد في كل مراحل جهاده عليه السلام...
يصف عليّ عليه السلام علاقته ومنزلته لدى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عَرْفَه [رائحته الذكية]، وكان يمضغ الشيء ثم يلقّمنيه... ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به"(1).
ويصف في مقام آخر كيف كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول عليه السلام: "ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أني لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكُصُ فيها الأبطال وتتأخر فيها الأقدام نجدةً أكرمني الله بها"(2).

*في ساحات الجهاد
وبعد بيانه عليه السلام كيف كانت علاقته بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتقل عليه السلام ليبيّن بعضاً من جهاده معه صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف كان ومن معه متيقّناً بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مستجيباً لنداء الله ونبيّه في الجهاد حتى لو كان الثمن غالياً جداً ومكلفاً فيقول عليه السلام: "لقد كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً ومضياً على اللقم [الطريق الواضح] وصبراً على مضض الألم وجدّاً في جهاد العدو"(3).
ثم يختتم عليه السلام رحلته مع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بموته، مبيّناً حزنه وألمه لتكون بداية مرحلة جديدة في حياة الأمّة فيقول عليه السلام:
"بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوَّة، والإنباء وأخبار السماء... ولولا أنّك أمرت بالصبر ونهيْت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشَّؤون [الدموع]... بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربّك واجعلنا من بالك"(4).

*"لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين"
يبتدئ علي عليه السلام مرحلة ما بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بكثير من الهدوء والحكمة وعدم الانفعال حتى لا تقع الأمّة في العمياء، ولذلك يعلن موقفه الذي جعله عنواناً لتحرّكه، مقيّداً هذا العنوان فيما لو أحسّ على الإسلام خطراً، فلن يتأخر عن نصرته فيقول عليه السلام:
"لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأُسالمنَّ ما سَلِمَت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّة التماساً لأجر ذلك وفضله. وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه"(5).

بدأ أمير المؤمنين عليه السلام يستشعر مرارة الصبر، وقساوة الأيام حين رأى أن الخلافة أخرجت عن طريقها السويّ إلى غير مكان، فيصف علي عليه السلام مقامه ومنزلته ورفعته، وكيف أنه احتار في أمر هذه الأمة وكيف أخذ الصّبر طريقاً، فقال عليه السلام في بعض من خطبته المعروفة بالشقشقية:
"ينحدر عني السيل ولا يرقى إليَّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشْحاً [جانب البطن]، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جَذَّاء [مقطوعة] أو أصبر على طخيةٍ [الظلمة] عمياء يهرمُ فيها الكبير ويشيب فيها الصغير... فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهَباً"(6).

*أمواج الفتن
ثم يرى علي عليه السلام الأمة منجرفة نحو الفتنة منزلقة إليها، فيطلق نفير التحذير ويوضح الطريق الذي يجب سلوكُه حتى لا تقع في نار الفرقة، فيقول:
"أيها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا عن تيجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح، واستسلم فأراح. هذا ماء آجن ولقمة يغص بها آكلُها". ثم يحاول عليه السلام أن يطرد عنه تهمة التخاذل وخوف الموت، فيقول: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه"(7).

ثم يشرح عليه السلام كيف تتكوّن الفتنة وما هو سبب نشوئها فيقول:
"إنما بدء وقوع الفتن أهواءٌ تُتّبع وأحكامٌ تُبتدع يُخالف فيها كتاب الله ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يَخْفَ على المرتادين، ولو أن الحق خلص مِن لبس الباطل لانقطعت عنه ألسن المعاندين ولكن يؤخذ من هذا ضغثٌ ومن هذا ضغث فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى!"(8).

*الخلافة والمخاطر
بعد تلك السنوات العجاف، ما بين رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تسلّمه الخلافة والحكم، كانت الأمة قد انحرفت عن هداها وتربّت أجيال في حجر الضلالة ونمت أجسادٌ من مال الرشوة، وشراء الذمم. وكان الناس يبحثون في الدين عن مصالحهم ويطبقون الإسلام فيما ينسجم مع مآربهم، لذا كانت رحلة علي في الخلافة محفوفة بالمخاطر، مصحوبة برفض الرافضين وتضرّر المرتشين، فجرَّدَ العزيمة من قرابها وشمّر عن صدق النية، فقال عليه السلام:
"فقمتُ بالأمر حين فشلوا، وتطلّعت حين تقبّعوا، ونطقت حين تتعتعوا، ومضيتُ بنور الله حين وقفوا، وكنت أخفضهم صوتاً وأعلاهم فوتاً... كالجبل، لا تحركه القواصف ولا تزيله العواصف. لم يكن لأحد فيَّ مهمز ولا لقائلِ فيَّ مغمز، الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقويُّ عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه"(9).

*قال عليه السلام في العدل
وأراد أن يرسي في الأمة مفهوماً جديداً في التعاطي والتعامل بعيداً عن المحاباة والمحاصصة والأنانية فقال عليه السلام في العدل: "إن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق"(10).
ولكي لا يفهم أحدٌ أن علياً تسلّم السلطة والملك ليحقق مآربه الشخصية قال:
"اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماسَ شيءٍ من فضول الحُطام، ولكن لنرِدَ المعالمَ من دينك ونظهرَ الإصلاح في بلادك، فيَأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطّلة من حدودك"(11).

*ما أوصى عليه السلام به عمّاله
ثم بدأ علي عليه السلام في الإصلاح الفعلي للأمور، فها هو يقول لعامله في جمع الصدقات:
"آمره بتقوى الله في سرائرِ أمرهِ وخفيات عمله، حيث لا شهيد غيره ولا وكيل دونه، وآمره أن لا يعمل بشيء من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرّ"(12).

وها هو عليه السلام بدأ ينفخ في الأمة روح الإسلام الحقيقي لينقذهم من وثبة الدنيا ويوقظهم من غفلتها، فقال مبيّناً بجميل العبارات وعميق المعاني:
"دار بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نُزَّالها، أحوال مختلفة وتارات متصرّفة، العيش فيها مذموم والأمان فيها معدوم. وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها وتفنيهم بحمامها"(13).

ثم يرشد عماله لطريق التعاطي مع الناس بروح الإسلام فيقول بأروع الكلمات:
"فاخفض لهم جناحك وألن لهم جنابك وابسط لهم وجهك، واسِ بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييأس الضعفاء من عدلك بهم"(14).
إلى هنا نكون قد صحبنا علياً في بعض من حياته وتذوّقنا جميل بلاغته وعظمة ارتباطه بالله، ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. نسأل الله أن يجعلنا من الموالين له حقاً، في الدنيا والآخرة.


1.نهج البلاغة، الخطبة (192).
2.م.ن، الخطبة (188).
3.م.ن، الخطبة (56).
4.م.ن، من كلامه عليه السلام (235).
5.م.ن، من كلامه عليه السلام (74).
6.م.ن، الخطبة (3).
7.م.ن، الخطبة (5).
8.م.ن، الخطبة (50).
9.م.ن، من كلام له عليه السلام (37).
10.م.ن، الخطبة (15).
11.م.ن، الخطبة (31).
12.م.ن، من كتاب له عليه السلام (26).
13.م.ن، خطبة (226).
14.م.ن، من عهده عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر رقم (27).

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع