سماحة السيد حسن نصر الله حفظه الله
ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قوله: "لو كُشف لي الغطاء لما ازددت يقيناً"(1). علي عليه الصلاة والسلام الذي امتلأ باليقين من رأسه إلى أخمص قدميه سأل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في محضر الصحابة: عندما تُخضّب لحيته بدم رأسه، أيكون في سلامة من دينه أو في يقين من دينه؟ فأجابه الرسول: نعم(2).
عندما نجد أن علياً عليه السلام يتوجّه بمثل هذا السؤال إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الإمام وصاحب اليقين الأكبر، يجب أن يمتلئ قلب الواحد منّا رعباً: على نفسه، وآخرته، وعاقبته وخاتمته.
*كيف نخرج من الدنيا؟
من هنا أودّ أن أتحدّث، باختصار، عن مسألةٍ إيمانيّةٍ ومصيرية، لا يجوز أن نغفل عنها لحظةً واحدةً وهي: عاقبتنا، وخاتمة أعمالنا. كيف نخرج من هذه الدنيا؟ وعلى أي حالٍ؟ ليس المهم كيف كنت طيلة حياتي، لكن الأهمّ ما أنا عليه الآن. كيف أرتحل عن هذه الدنيا؟ هل أكون من أهل الإيمان أم من أهل الكفر والمعاصي؟
علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نبقى خائفين من سوء العاقبة، نتطلّع إلى اللحظة التي يحضرنا فيها ملك الموت، وتُنتزع منا الروح. في تلك اللحظات ما هو حالنا؟ وما هي صورتنا؟ هذا القلق أو الخوف اتجاه تلك اللحظة،
وهذا التعلّق بين الخوف والرجاء يجب أن يبقى فينا قوياً. ولا يجوز، على الإطلاق أن يطمئن الواحد منا لعاقبته وخاتمته لأن ذلك الاطمئنان هو أمنٌ من مكر الله وامتحانه، وهو من الكبائر وليس من المعاصي العادية.
*المؤمن يخشى سوء العاقبة
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف المؤمن: "لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة"(3). حتى ولو كان من أعظم العُبّاد والمجاهدين، حتى لو امتلأ قلبه يقيناً كيقين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام يجب أن يبقى المؤمن خائفاً من سوء العاقبة. ومن يُهمل هذا الإحساس ولا يتطلّع إلى تلك الساعة هو ممّن يُختم له بسوء والعياذ بالله. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة" أربعين سنة،
خمسين سنة قد يقضيها في: صلاة، صوم، حج، جهاد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، موعظة، خطابة، بر والدين، صلة رحم، صدقة أيتام... إلى آخره "ثم يختم له بعمل أهل النار، وإنّ الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثمُ يُختم عمله بعمل أهل الجنة"(4).
المقياس هو كيف يُختم عمل الإنسان، فكما أنّ الحسنات يُذهبن السيئات كذلك السيئات يحبطن الحسنات. نحن نعرف أنّ كلّ واحدٍ منا في الحياة الدنيا معرضٌ للامتحان وللبلاء. هذه مشيئة إلهيّة حتميّة، وبالخصوص المؤمنين. ولا يخرج مؤمن من هذه الدنيا بدون امتحانٍ وابتلاء. إذاً، علينا أن نحذر كي لا نسقط في الامتحان، وأن ننجح لأنّ في الامتحان تحسُن عاقبة الإنسان وخاتمته.
*البلاء يمحص.. حتى القلوب
عندما نعود إلى آيات الله عزّ وجلّ في الحديث عن البلاء الإلهي والامتحان الإلهي، نرى أن كل إنسان معرّضٌ للبلاء. حتى أنبياء الله العظام ابتلوا بابتلاءات عظيمةٍ وكبيرة كإبراهيم عليه الصلاة والسلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمتنا عليهم السلام. طبعاً، هدف البلاء يختلف من إنسان إلى إنسان، منه ما له علاقة بسوء العاقبة، ومنه بعلو الدرجات، أو بمقام القرب من المولى عزّ وجلّ. إنّ قانون الابتلاء والامتحان يشمل الجميع بلا استثناء. يجب أن نعرف ونتيقّن، على المستوى العقائدي والفكري، أنّ كلّ واحدٍ منا لن يخرج من هذه الدنيا إلّا بعد أن يُنجز ويواجه امتحانه وابتلاءه.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: 179).
وفي خطاب موجّه للمؤمنين العائدين من الجهاد أو الذاهبين إلى الجهاد يقول تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾(آل عمران: 142-140)
أي يميّز الله الصابرين ويميّز المجاهدين والأتقياء كما يُمحّص بالبلاء ما في القلوب وما في السرائر ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة﴾ (الأنفال: 42) ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ (آل عمران: 154).
فلا يكفي القول باللسان فيمحص ما في قلوبكم ﴿وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (آل عمران: 154) ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: 16)
ثم يقول: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الكهف: 7).
*إبليس وسوء العاقبة
عندما نعود إلى القرآن ونستعرض النماذج، نقرأ ما يملأ قلب الإنسان رعباً، وليس قلقاً وخوفاً فقط على عاقبته وعلى خاتمته. ففي العديد من السور القرآنية يحدّثنا الله سبحانه وتعالى عن قصة آدم وإبليس. وهذا التكرار، في الآيات والسور ليس عبثاً، لأن هذه الحادثة تحوي الكثير من المواعظ والعِبر والمفاهيم، كما أنّ فيها الكثير من الأبعاد والصور الهامة. لذلك، نجد هذا المستوى من الاهتمام الإلهي والقرآني المكثّف بهذه الحادثة.
والسؤال هو: ماذا كانت عاقبة إبليس بعد سنوات طويلة ومتمادية من العبادة والتسبيح؟ فهو لم يكن عابداً فقط، بل كان عالماً. وكان الغيب الذي نتحدث عنه، شهوداً بالنسبة إليه، فقد كان من أعاظم العلماء والعبّاد حتى ارتقى إلى أعلى مستويات الملائكة.
لم تكن قصة إبليس قصة شهوة: شهوة أكل، أو مُتع، أو مال. لقد صمد إبليس في كل هذه الامتحانات، بل كانت القصة عنده الإحساس بالكبر، وبالعنصرية، قال: خلقتني من نارٍ وخلقته من طين. القصة كانت عنده كيف يسجد لآدم، وهو الذي عبد الله سنوات طويلة وسبّحه سنوات طويلة وسجد له السجدات الطويلة، وهو الذي يعلم بالمشَاهدة عظَمة خلْقه وملكوت سماواته. رغم ذلك في هذا الموقف سقط إلى أسفل السافلين، "تحوّل" إلى طريدِ الرحمة الإلهية. قال تعالى:﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ ﴾ (البقرة: 34) فسجد الملائكة إلّا إبليس. هناك عبرة من هذه القصة، لا أريد أن أتكلّم عن قصص من التاريخ أو عن أشخاص سبقوا إلى الإيمان في صدر الإسلام، جاهدوا، وجرحوا، وهاجروا، وضحّوا وتألموا، وبعضهم حمل السيف دفاعاً عن حق علي ثم بعد سنين حمل السيف ليقاتل حق علي، كالزبير بن العوّام مثلاً. هذه الحوادث هي الابتلاء والامتحان.
*"الطين" كان امتحان الملائكة وإبليس
أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام قال في قصة آدم وإبليس إن الله لو أراد لكان خلق آدم من نور وليس من طين، حيث كان لا مجال للمزايدة عند إبليس، فبين النار والطين تكون المزايدة ممكنة لكن بين النار والنور لا مجال للمزايدة. ولكن الله تعالى خلقه من طين. فآدم، في الحقيقة، كان امتحاناً للملائكة ولإبليس الذي عُدّ في عداد الملائكة.
عندما نرى هذا الوضع، ونقرأ ما تحدث القرآن به عن إبليس الذي كان لديه علم، وعبادة، وزهد... إلخ. ونرى كيف سقط في امتحان واحد نعلم أننا لا يجوز أن نطمئن إلى مستوى إيماننا ويقننا أو إلى معرفتنا وجهادنا، ويجب علينا أن نحذر ونحتاط إذ يمكن أن تزلّ القدم بنا، ويمكن أن يزيغ القلب منا في أي لحظة. يجب أن نعرف أننا في خطرٍ دائم. ويجب أن نعيش الخوف على عاقبتنا، حتى يحضرنا ملك الموت ونصبح في مرحلة نزع الروح. في تلك اللحظة ضعوا القلق جانباً، لأنّ الصورة أصبحت واضحة... والمشهد أصبح عينياً. لكن، إلى تلك اللحظة نحن معنيّون بهذا القلق لأنّ أي واحد منا لا يصل إلى مستوى المجاهدين، والعلماء، والسابقين، والعبّاد والزهّاد الذين نقرأ أسماءهم الكبيرة في التاريخ والذين خُتم لهم بسوء وخرجوا من الدنيا ليسوا في عداد أهل الجنة وسقطوا في الامتحانات الكبيرة والصعبة والعسيرة. يجب أن نعرف أنّ كل واحدٍ منا مُمتحنٌ في كل ما يحيط به.
*حتى يُختم لنا بخير
هذه الدنيا هي دار امتحان، وهي دار بلاء. كل لحظة من لحظات العمر هي لحظة امتحانٍ، ولحظة بلاءٍ واختبار. وبالتالي يجب أن نتحصّن بقوة لنتمكّن من تجاوز هذا الامتحان ليُختم لنا بخير، إن شاء الله.
في الختام، أقول: إن إيماننا وديننا معرّضان في كل لحظة لأن يسرقهما إبليس الذي شُغله في هذه الدنيا أن يسرق الإيمان من قلوب عباد الله المخلصين، ولذلك يجب أن نحاذر من كل صوتٍ أو كلمةٍ، أو خاطرة قلبٍ، أو ما يجول في عقلٍ أو فعلٍ أن لا يكون ذلك إلّا بما يُرضي الله وأن يكون أبعد ما يكون عن معاصي الله وعن محارم الله عزّ وجلّ.
أسأل الله تعالى لي ولكم حُسن العاقبة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1.مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج1، ص317.
2.يراجع: الوافي، الكاشاني، ص368.
3.بحار الأنوار، المجلسي، ج6، ص176.
4.جامع أحاديث الشيعة، البروجردي، ج19، ص172.