نور روح الله | علّمتنــا  أن نبصر جمـال البلاء* مع الإمام الخامنئي | رسالة القرآن: حقيقة النصر* تسابيح جراح | نبضي الخافت تمرّد على الموت مناسبة | في جوار المعصومة عليها السلام الافتتاحية | أذلّاء، لن يجدوا إلّا سراباً كان أباً مجاهداً - حوار مع عائلة سماحة السيّد الشهيد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه) وصيّة السيّد صفيّ الدين: "ممنوع أن يجوع أحد" قيادة السيّد هاشم: حـزمٌ فـي ليـن نذرٌ أثمر شرحاً - شــــرح نهــــج البلاغـــة للسيّد هاشم صفيّ الدين لستُ شيعيّاً وأحبُّ السيّد

الشهيد على طريق القدس الحاجّ محمّد عفيف النابلسي


نسرين إدريس قازان


الاسم الجهاديّ: الحاجّ محمّد عفيف
الوضع الاجتماعيّ: متأهّل وله ثلاثة أبناء.
تاريخ الولادة ومحلّها: بيروت، 23/11/1959م.
تاريخ الشهادة ومحلّها: بيروت، 17/11/2024م
.

بينما كانت رحى الحرب تدور، وتتصاعد وتيرة القصف والاغتيالات التي استهدفت القادة والمجاهدين، ادّخر الحاجّ محمّد عفيف روحه بالوفاء والثبات، وعمل على توضيح الرؤية بكلّ ما أوتي من عزيمة.

• المبادر المعطاء
في ظلّ ضبابيّة المشهد وقساوة الأيّام، استنبط الحاجّ محمّد تكليفه بالدفاع عن القضيّة؛ فقام بجولات إعلاميّة في أكثر المناطق خطورة، إحداها بالقرب من مجمع سيّد الشهداء عليه السلام في منطقة الرويس بعد استهدافه، ومرّة أخرى بالقرب من روضة الحوراء زينب عليها السلام، وكذلك المؤتمر الصحفيّ الذي عقده في طريق المطار بالقرب من الدمار الذي لحق بالمنطقة، ليثبت أنّ صوت المقاومة لا يمكن أن يخبو.
يتذكّر ابنه الأكبر ذلك النهار قائلاً: «كنتُ حينها برفقته. جلبتُ على عجالة كرسيّاً وطاولة من الفندق المحاذي للدمار، ووضعتُ عليها غطاءً، فيما أمّن أحد الإخوة الأعلام. وبينما كانت طائرات الاستطلاع تحوم فوقنا، لم يتردّد الحاجّ في مواجهة التهديدات. فقد واجه كلام وزير الدفاع الإسرائيليّ السابق يوآف غالانت بتصريحات حاسمة وتهديد واضح: (الحديد بالحديد، والدم بالدم، والنار بالنار). لقد كان شجاعاً وغير مكترث بما قد يتعرّض له، لإيمانه بأنّ كلّ كلمة يقولها تصيب العدوّ وتوجعه». ويضيف: «طوال حياته، كان والدي مبادراً وسبّاقاً في طرح الأفكار وتنفيذها، مستلهماً من قيم الأمين العام سماحة السيّد الأسمى (رضوان الله عليه)، ويترجم رغباته إلى أفعال. لا بل كان يضيف من أفكاره الخاصّة بما يتوافق مع رؤية سماحته».

• جبهة إسناد إعلاميّ وعائليّ
في معركة أولي البأس، بادر الحاجّ محمّد عفيف إلى إنشاء جبهة الإسناد الإعلاميّة، مختاراً طريقه على بيّنة من أمره. كانت هذه الجبهة بمثابة عمل رجل واحد، اختصر فيها عمراً مديداً من الخبرة في توظيف الروح المعنويّة والقتاليّة والإعلاميّة في ساحة المعركة. لقد آمن دائماً بأنّ على كلّ مكلّف أن يحدّد دوره في الحرب ليقوم به على أكمل وجه، وهذا ما فعله بنفسه.
لم يكن الحديثُ سهلاً على ولديه وابنته الوحيدة، فرفيقة الدربِ الحاجة دلال ذياب لحقت بزوجها بعد فترة وجيزة من استشهاده، ليخيّم اليُتم على ذلك البيت الذي ملأهُ الحاجّ محمّد حبّاً وحناناً. تخبرنا ابنته عنه: «لم يكن يؤخّره شيء عن متابعة أدقّ أمورنا منذ صغرنا، حتّى أنّه كان يحضر لقاءات الأهل المدرسيّة، إذ حرص على أن يشعرنا بتواجده الدائم بقربنا على الرغم من انغماسه في العمل»، ويكمل ابنه الثاني الحديث قائلاً: «لقد كان يعمل ليل نهار، لدرجة أنّه كان يقول إنّه إذا توقّف عن العمل يوماً فسيموت. تلك الحيويّة التي اتّصف بها كانت نادرة. لقد كان منتج أفكار لا تعرف السكون؛ فكلّ فكرة يطرحها تتفرّع عنها أفكار أخرى بمجرّد الحصول على الموافقة عليها، ممّا كان يزيدُ من عبء العمل على عاتقه. وعلى الصعيد الروحيّ، كان يتميّز بشفافيّة لافتة جدّاً في تعامله مع عمله، إذ كان يعدّه عملاً جهاديّاً تعبديّاً، وليس مجرّد وظيفة».
ولكن كيف كان يستطيعُ متابعة كلّ المهام المطلوبة منه؟ يجيب ابنه البكر: «لأنّه شخص منظّم ودقيق جدّاً، يستغلُّ كلّ دقيقة من وقته، ولا ينقطع عن عمله ويحفظ أدقّ تفاصيله، ويتابعه حتّى في أوقات إجازته عبر الهاتف، وكان يجيدُ توزيع المهام بدقّة».

• في ركب الإمام الخمينيّ قدس سره
لا شكّ في أنّ الأشخاص يتوارثون بعض الخصال عن آبائهم؛ فهو ابن العلّامة سماحة الشيخ عفيف النابلسي، وقد ولد في النجف الأشرف وترعرع فيها، حيث كان رفيقاً للكتاب والقلم، وقد تأثّر كثيراً بفكر والده وتوجّهاته الدينيّة والسياسيّة.
بعد عودتهم إلى لبنان والاستقرار في صيدا حيث مسقط رأسهم، كان من الثلّة المتأثّرة بثورة الإمام الخمينيّ العظيم قدس سره، والمسارعين للالتحاق بركبها. يخبرنا ابنه الأصغر عن قصّة اختفاء والده لأشهر عدّة أوائل الثمانينيّات: «حينها، لم يعرف جدّي مكانه بالتحديد، كلّ الذي عرفه أنّه سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة، فلجأ إلى سماحة السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه) لمساعدته في البحث عنه والعودة به إلى المنزل. وبالفعل، وُجد في إحدى الجبهات في إيران حيث كان يشارك في الحرب المفروضة، ثمّ عادوا به إلى لبنان». ولكن إلى أين عاد؟ يجيبنا ابنه البكر: «لقد عاد ليسكن تارة في محاور الجنوب، حيث كان يشارك في العمليّات العسكريّة ضدّ العدوّ الصهيونيّ، وخصوصاً في منطقة إقليم التفاح، وفي بعض الأحيان كان يعود بعد غياب طويل إلى المنزل بثيابٍ يلتصق بها الطين، فيقول إنّه يعمل في البناء (الفاعل)(1)، وتارة أخرى في بيروت متنقّلاً بين بعض الأعمال، حيث كان يوكَل إليه الكثير من المهام لتنفيذها؛ أمنيّة وعسكريّة واجتماعيّة، وكلّ ذلك كان تحت ناظري السيّد عبّاس الموسويّ، الذي أوكل إليه مهمّة إعلام الجنوب، لتبدأ رحلته الابداعيّة في هذا العالم».

• أبرز الأدوار الإعلاميّة
لم يكن هذا الاختيار بناءً على ما درسه الحاجّ محمّد في الجامعة، وهذا ما أثار استغرابنا: «إنّه مهندس ميكانيك، درس هذا الاختصاص في الرياض، وقد عاد إلى لبنان بعد تخرّجه»، قالت ابنته، ثمّ أخبرنا ابنه البكر: «خلال العمليّة العسكريّة التي غنمت فيها المقاومة الإسلاميّة ملّالة إسرائيليّة، اعترضتهم دوريّة لقوّات حفظ السلام، فتحدّث معهم والدي بالإنكليزيّة، وشرح لهم أنّ المشكلة مع العدوّ الإسرائيليّ، ولا علاقة لهم بهذا الأمر».
بعد استشهاد السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، بقي الحاج محمّد في منصبه، وواكب حربَي تموز 1993م ونيسان 1996م، وأكمل عمله الإعلاميّ إلى جانب ما كان يطلبه منه الأمين العام، وكان مشاركاً أساسيّاً في كلّ فكرة إعلاميّة منذ نشوء حزب الله. كما كان له دور في تأسيس جريدة العهد وإذاعة النور وقناة المنار وإطلاقها جميعاً، وكان قد شغل منصب المدير العام للقناة لفترة. بعدها، كلّفه سماحة السيّد نصر الله (رضوان الله عليه) بإدارة الأخبار والبرامج السياسيّة، ويذكر لنا ابنه البكر: «خلال حرب تمّوز 2006م، بقي والدي مع بعض الإعلاميين والفنّيّين في مبنى القناة لمتابعة النقل المباشر، لما في ذلك من رمزيّة للصمود بناءً على طلب سماحة السيّد، ولكن حين اضطرّوا للإخلاء، وقف عند الباب وأشرف على خروج الجميع. ولمّا تأكّد أنّ المبنى أصبح خالياً، غادر المكان».
وعن تولّيه مسؤوليّة العلاقات الإعلاميّة، يخبرنا ابنه البكر: «لقد كلّفه سماحة السيّد الأقدس بتشكيل لجان إعلاميّة في المحور، وكلّ لجنة كانت جبهة بحدِّ ذاتها. وقد أدّى دوراً مهمّاً في التصدّي للكثير من الإشاعات التي حيكت ضدّ المقاومة. أذكر جيّداً كيف أنّ والدي أسرع في الوصول إلى نادي العهد الرياضيّ في الأوزاعي، يوم قيل إنّ فيه صواريخ، فأثبت عبر البثّ المباشر زيف تلك الادّعاءات، وكانت تلك واحدة من مبادرات كثيرة أثنى عليها سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)».
يكمل ابنه الأصغر: «لقد كان ينسّق الجولات الإعلاميّة، إن كانت في المحاور أو أيّ مكان يتعلّق بالمقاومة، ويهتمّ كثيراً بإبراز الاستعداد العسكريّ لها، وكانت مناورة (كسارة العروش) في أيّار من العام 2023م من أبرز ما قدّمه الحاجّ محمّد عفيف على المستوى الإعلاميّ – العسكريّ، إلى أن جاءت حربُ الإسناد، بحيث كان يتابع كلّ البيانات الصادرة عن حزب الله، ويدقّق فيها، ثمّ يضع جداول إعلانها».

• بركات الإمام الحسن عليه السلام
يخبرنا أبناؤه أنّه كان محاطاً بالتوفيقات الإلهيّة، عن ذلك تقول ابنته: «لم تكن تلك التوفيقات منحصرة فقط في العمل، بل في حياته الشخصيّة، وكان يعزو كلّ ما وصل إليه على أنّه من بركات الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، إذ أنّه أسّس لمجلس سنويّ في ذكرى شهادته في هذا المكان الذي نوجد فيه، وهو عبارة عن قاعة أسّسها الحاجّ فوق المنزل، لتكون مكاناً لإقامة مجالس العزاء والمحافل القرآنيّة، وقد أصبحت محطّة سنويّة لكثيرين».


• مخاض الرحيل
عن استهداف سماحة السيّد (رضوان الله عليه)، يقول ابنه: «كان ليل السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2024م، مخاض رحيل والدي، إذ لم يستطع قلبه وعقله أن يتحمّلا ذلك الرحيل، وهنا، كتب بيان نعي سماحته، وقد نعى نفسه في الوقت ذاته». ثمّ أشار إلى زاوية في القاعة حيث نجلس، وقال: «هنا كان مكتبه، فهو لم يكن يعود إلى المنزل إلّا ليرتاح قليلاً، وسرعان ما يصعد إلى مكتبه ليستكمل متابعاته».
وبالفعل، ستبقى الكلمة التي ألقاها في يوم شهيد حزب الله بتاريخ 11- 11-2024م محفورة في وجدان الأمّة، وصوته الممزوج بالدمع المرّ وهو يرثي مصيبة فَقْد سماحة السيّد مسلّماً بقضاء الله، سيبقى في القلوب. وقبل ليلة واحدة من اغتياله، كان ينعى نفسه، فالحياة لم تعد تعنيه، والحزن الذي في قلبه كان أكبر من أن يتحمّله.

• الأمّة لا تموت
عندما اُغتيل الحاجّ محمّد، كان رئيس وزراء العدوّ الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو في جلسة مجلس أمنيّ مصغّر، لكنّه خرج من الاجتماع للإشراف شخصيّاً على عمليّة الاغتيال. يثبت هذا الموقف عمق التأثير الذي أحدثه الحاجّ في العدوّ الصهيونيّ في معركة أولي البأس.
لقد رحل الحاج محمّد عفيف، ولكنّه ترك من الصدقات الجارية في العمل الإعلاميّ إلى ما شاء الله، وستبقى كلمته: «حزب الله أمّة، والأمم لا تموت».
 
1. الفاعل هي صفة مهنة كانت تطلق على كلّ من يعمل أجيراً يوميّاً.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع