غدير مطر
في زاوية القاعة، امرأةٌ مسنّةٌ ترفع يديها متضرّعةً إلى الله، تدعو لكلّ من ساهم في إخراجها من زنزانة الأميّة إلى نور الهداية، بحروفٍ من نور.
وإلى جانبها، ربّةُ منزلٍ، تجتاز الطريق يوميّاً سيراً على الأقدام، على الرغم من التعب والحاجة، من أجل حفظ آية. جمعت بينهما قوّة القرآن، حين يسكن القلوب ويشعل فيها شوقاً لا يُطفأ.
في البقاع الشماليّ، حيث تتقاطع القسوة مع الرجاء، وتضيق السُبل إلّا من باب الله، تمضي جمعيّة القرآن الكريم في مسارٍ ثابت، تنثر من خلاله طمأنينةً في القلوب، وأملاً في الأرواح.
ما تقوم به الجمعيّة يتجاوز حدود التعليم؛ هو غرسٌ مستمرّ لحبٍّ يتجذّر في النفوس، ويُثمر صلاحاً في الناس.
في هذا التقرير، لن نحكي عن جمعيّة فحسب، بل سنضيء على رسالةٍ كُتبت بعزيمة، وأُمهرت بتوقيعٍ من نور الهداية.
• رسالة الجمعيّة... نحو إنسان قرآنيّ واعٍ
في الهرمل، حيث تعانق الجغرافيا الروح، وتبقى الجذور مشدودة إلى السماء، تنمو تجربة قرآنيّة تنبض بالحياة والعمل والإيمان. هنا، تختصر جمعيّة القرآن الكريم في البقاع الشماليّ معنى العمل الرساليّ، إذ تتّخذ من القرآن الكريم، لا مجرّد مرجعٍ دينيّ، بل مشروعاً لبناء إنسان متكامل، يحمل النور في قلبه ويُشعّ به في مجتمعه.
يقول مدير الجمعيّة في منطقة البقاع الشماليّ/ الهرمل فضيلة الشيخ رامي بليبل، إنّ منطلقهم الأصيل هو وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام: «الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم»(1)، مشيراً إلى أنّ الجمعيّة تسعى لأن يكون القرآن الموجّه للوعي، والمصدر الأوّل لبناء الشخصيّة، والمحرّك لقيم الرحمة، والعدل، والعبادة، والإصلاح الاجتماعيّ.
الجمعيّة لا تنظر إلى القرآن ككتاب مقدّس يُتلى فقط، بل كـ»دستور حياة»، ورافعة حضاريّة تُدخل الفرد في أفقٍ من التزكية والعلم والعمل. لهذا، يشدّد سماحته على أنّها تعمل على تعليم القرآن، وتحفيظه، وتدبّر معانيه، وتخريج كوادر قادرة على حمله، وتعليمه، وتطبيقه في شؤون الناس ومفاصل الحياة؛ بحيث تواكب الجمعيّة التحدّيات المعاصرة للحفاظ على الهويّة القرآنيّة في المجتمع، من خلال التركيز على التعبئة الروحيّة والمعنويّة، وإظهار النتائج السامية التي يحقّقها الإنسان في الدنيا والآخرة من خلال تبيان الأجر العظيم والتجارة الرابحة مع الله سبحانه وتعالى.
كما تعتمد الجمعيّة الأساليب الجاذبة والمتطوّرة والاستقطاب من خلال المسابقات المختلفة والبرامج الترفيهيّة الهادفة واستخدام التكنولوجيا، إضافة إلى التعرّض لكلّ العناوين المطروحة، التربويّة والعلميّة والاجتماعيّة، وعرضها على القرآن، ثمّ تنظيم ورش تفاعليّة وحضوريّة لمناقشة هذه العناوين، وتقديم الرؤية القرآنيّة ومناقشتها لاستخلاص الدروس والعبر وممارستها في الحياة اليوميّة.
• حيث تبدأ الثقافة القرآنيّة
يبدأ نشاط الجمعيّة انطلاقاً من دورها الهادف والمباشر في نشر العلوم القرآنيّة، وزيادة الوعي القرآنيّ لدى مختلف شرائح المجتمع بفئاته كافّة، بدءاً بالدورات القرآنيّة التعليميّة الابتدائيّة والمتوسّطة والتخصصيّة، ودورات حفظ القرآن الكريم بمختلف المستويات. كما تنظّم ورشاً تعليميّة، ودورات في الوقف والابتداء، والتجويد، والصوت والنغم والإتقان، وصولاً إلى تنظيم المسابقات على المستويين المحليّ والدوليّ والمشاركة فيها، إضافة إلى تدريب حكّام دوليّين وتأهيلهم، وإحياء المناسبات الدينيّة بالأمسيات القرآنيّة والعروض التفاعليّة، وتفعيل مجمع القرّاء والقارئات.
لكن الأهمّ، كما أوضح الشيخ بليبل، أنّ الجمعيّة تسعى إلى إدخال القرآن في حياة الناس اليوميّة، في بيوتهم، وعلاقاتهم، وسلوكهم. قائلاً: «نعمل على أن يدخل الفهم القرآنيّ كلّ بيت، فيتفاعل معه الأطفال، والآباء، والأمّهات، ليصبح جزءاً من نسيج حياتهم اليوميّة، لا مجرّد واجبٍ تعليميّ، من خلال التركيز على فهم المضامين القرآنيّة والعمل بها ما يعزّز الوعي الدينيّ في المجتمع».
وتؤمن الجمعيّة أنّ العمل الحقيقيّ لا يقتصر على نشر الحفظ فقط، بل يتعدّاه إلى ترسيخ الوعي والمفاهيم، كالصبر، والرحمة، والتعاون، والطهارة، والتسامح، والمساءلة الذاتيّة، بحيث يُعاد تشكيل الشخصيّة المؤمنة من الداخل.
أمّا في شهر رمضان المبارك، فتتحوّل الجمعيّة إلى خليّة نحل روحيّة، إذ تنظّم أمسيات، وصباحيّات، وختميّات، وحلقات تلاوة، ومسابقات تشارك فيها نخبة من القرّاء الدوليّين من لبنان، والعراق، ومصر، وإيران، وتضمّ برامج رمضانيّة مخصّصة للصغار والكبار، مع جوائز ماليّة وعينيّة من خلال تنظيم مسابقات عديدة، خاصّة في الشهر الفضيل، أبرزها مسابقة «جمال التلاوة»، التي يشارك فيها القرّاء والقارئات من مختلف الشرائح العمريّة، ومسابقات في المعارف القرآنيّة التفاعليّة، وغيرها.
يعلّق الشيخ بليبل على هذه النشاطات: «في شهر رمضان، تشتعل النفوس شوقاً للقرآن، ونحن نفتح لهم الدرب ليعيشوا هذا الوصال».
• برامج لكلّ الأعمار والمواسم
من عمر خمس سنوات، تبدأ أولى خطوات التلاوة، وتصحيح الحروف، ويتدرّج الطالب ليصل إلى مراحل التجويد، والحفظ، والتفسير، ونيل الإجازات. وتقدّم الجمعيّة برامج شاملة للصغار والكبار، وللنساء والرجال، ولفئات مختلفة منها كبار السنّ وذوو الاحتياجات الخاصّة. كما تنشط في تقديم برامج قراءة جماعيّة، وحلقات حفظ للأطفال، ومجمعات إتقان للكبار، ودورات تخصصيّة في القراءات. وقد لفت الشيخ بليبل إلى أنّ الإقبال ممتاز، وخصوصاً من النساء، ما يعكس تحوّلاً إيجابيّاً في مدى التفاعل المجتمعيّ مع المشروع القرآنيّ.
وأكّد سماحته أنّ معظم البرامج مجّانيّة أو شبه مجّانيّة، حرصاً على كسر العوائق الاقتصاديّة أمام التعلّم، وإتاحة الوصول للجميع، من دون استثناء.
• خرّيجون، وقصص، وتجارب حيّة
ليس الحصاد أرقاماً فقط، بل وجوه وقلوب. فالجمعيّة خرّجت على مدى السنوات الماضية المئات من حَفَظة القرآن، والقرّاء الدوليّين، والحكّام، والمعلّمين، والمعلّمات، الذين انتشروا في لبنان وخارجه، ينشرون الهداية، ويثبتون أنّ مشروع القرآن قابل للحياة والتمدّد.
بعض الخرّيجين، كما روى الشيخ بليبل، بلغوا المراتب الأولى في مسابقات دوليّة، وبعضهم نال وسام الشهادة، فكان من حفظة القرآن الذين جاهدوا في سبيل الله حتّى آخر نفس.
في موقف لا ينساه الشيخ بليبل، تحوّل مجلس صغير إلى مشهد إنسانيّ كبير، حين رفعت امرأة مسنّة يديها باكية بالدعاء للجمعيّة، بعد أن تعلّمت التلاوة لأوّل مرّة في حياتها. مشهد أثّر في الشيخ بليبل، الذي علّق قائلاً: «هذا هو النصر الحقيقيّ».
• خطط مستقبليّة ودعوة للمشاركة
على الرغم من التحدّيات، لا تزال الجمعيّة ترسم للمستقبل خطط أمل طموحة، كما كشف الشيخ بليبل، تشمل زيادة الدورات التخصصيّة في الحفظ والتعليم، واعتماد «الحفظ باللعب» للأطفال، وتطوير الكادر التعليميّ، وتنظيم لقاءات ومسابقات تنافسيّة هادفة.
وتسعى الجمعيّة إلى إدخال النشاطات القرآنيّة إلى المدارس كلّها، الرسميّة والخاصّة، وتحفيز المعلّمين على إعداد أبحاث قرآنيّة، وكذلك إعداد برامج تحفيزيّة للعاملين داخل الجمعيّة.
وعن التفاعل مع المجتمع، أشار سماحته إلى التعاون الكبير مع المدارس والجامعات الرسميّة والخاصّة، من خلال برامج مسابقات وجوائز، وعلى رأسها جائزة السيّد عبّاس الموسويّ للطلبة الجامعيّين. كما أنّ الجمعيّة تنشط بقوّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ، بحيث وصلت برامجها الإلكترونيّة إلى مئات المستفيدين الذين حالت ظروفهم دون الحضور الميدانيّ.
وفي ختام اللقاء، دعا الشيخ بليبل الجميع، أفراداً ومؤسّسات، إلى الالتفاف حول القرآن، ومساندة من يحملونه، قائلًا: «القرآن كلام الله، وهو فيضه على عباده. من أراد عيش السعداء وموت الشهداء، والنجاة يوم الحسرة، والظلّ يوم الحرور، والهدى يوم الضلالة، فليدرس القرآن، فإنّه كلام الرحمن، وحرز من الشيطان، ورجحان في الميزان، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يعذّب الله قلباً وعى القرآن)(2)».
1. نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، ج17، ص 5.
2. الأمالي، الشيخ الطوسيّ، ج 6، ص 7.