نور روح الله | بالدموع الحسينيّة قضينا على الاستكبار* بمَ ينتصر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ (2)* فقه الولي | من أحكام النزوح تحقيق | قصائدُ خلف السواتر مناسبات العدد ياطر: إرثٌ في التاريخ والمقاومة (2) محميّة وادي الحجير: كنزُ الجنوب الصامد (1) قصة | وزن الفيل والقصب شعر | يا ضاحية الافتتاحية | لحظة صدقٍ مع اللّه

إلى كل القلوب | وصاياه الأخيرة في عاشوراء*


سيّد شهداء الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)
 

في كلّ عام، وفي ذكرى عاشوراء، يتجدّد اللقاء بين المؤمنين ورسالة الإمام الحسين عليه السلام. وكان سماحة السيّد الشهيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) من أبرز من حمل هذه الرسالة بكلّ وعي ومسؤوليّة وتأثير، إذ رأى أنّ المنبر الحسينيّ ليس مكاناً للبكاء فحسب، بل هو منبر تربويّ وثقافيّ وتعبويّ، يصنع الجيل الملتزم ويوجّه المجتمع نحو الحقّ والمقاومة.

نستعرض في ما يأتي توصياته الأخيرة التي وجّهها سماحته (رضوان الله عليه) إلى المحبّين الموالين، والتي تعكس رؤيته العميقة للثقافة الحسينيّة كنهجٍ حياتيٍّ وبرنامج عمل يوميّ.

* أوّلاً: استحضار الذكرى
إنّ دخول شهر المحرّم وظهور هلاله ليس مجرّد مناسبة شكليّة، بل هو مناسبة حقيقيّة للحزن والأسى العميقين.

قبل أن نلبس السواد، أو نحيي المجالس، أو ننشر الكلمات عبر الإعلام، ثمّة أمرٌ جوهريّ يجب أن يعيشه كلّ مؤمن، وهو استشعار الحزن الداخليّ الصادق.

في مثل هذا اليوم، يجب على كلّ واحد منّا أن يستحضر في ذهنه ويتألّم بقلبه لما حدث في سنة 61هـ، عندما استشهد الإمام الحسين عليه السلام، حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خامس أصحاب الكساء، ومن كان رمزاً للعفّة والكرامة، وما حلّ بأهل بيته وأطفاله ونسائه وصحبه من المصائب التي تُروى في الليالي العاشورائيّة.

كان أهل البيت عليهم السلام بعد يوم العاشر من المحرّم يدخلون في حالة حزن وأسى، ويستحضرون المصاب بكلّ وجدان، فاتّخذوا من هذه الذكرى موعداً سنويّاً للتعبير عن ولائهم ومحبّتهم. وحتّى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بكى قبل أن يحدث الاستشهاد، كما نقلت ذلك الروايات الشيعيّة والسنيّة، وكذلك فعل كلٌّ من السيّدة فاطمة وأمير المؤمنين عليهما السلام، والأئمّة من بعدهما عليهم السلام. واليوم، يبقى إمامنا الغائب عجل الله تعالى فرجه الشريف يبكي دماً لا دموعاً، لأنّه يرى الحدث بوضوح عظيم لا ندركه نحن.

إذاً، فإنّ عاشوراء هي قبل كلّ شيء مناسبة للحزن والأسى والتألّم الحقيقيّ، وهذا تعبير عن المودّة لأهل البيت عليهم السلام، لأنّ المحبّ يفرح لفرح محبوبه ويحزن لحزنه.

* ثانياً: إظهار الحزن
إنّ الحزن على الإمام الحسين عليه السلام في أيّام المحرّم ليس أمراً داخليّاً فحسب، بل ينبغي إظهاره في الخارج بما يتناسب مع الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي نعيشها. ومن نعمة الله علينا أنّنا اليوم، وفي معظم بلدان العالم، قادرون على التعبير عن هذا الحزن من دون خوف أو عراقيل.

إنّ إظهار الحزن واجبٌ شرعيّ ومسؤوليّة، ويتجلّى ذلك في لبس السواد، والبكاء والندب، في الاجتماع ضمن المجالس الحسينيّة، ورفع الرايات السوداء في الشوارع والساحات العامّة.

كما إنّ الامتناع عن مظاهر الفرح من الأعراس والأفراح خلال هذه الأيّام جزءٌ من هذا الإحياء، وهو ما أصبح عرفاً حسناً بين المؤمنين، بحيث اعتاد الناس أن يؤجّلوا أفراحهم إلى ما بعد المحرّم وصفر، وهذا تطبيق حقيقيّ لروح المناسبة.

ولا تتوقّف هذه المسؤوليّة عند حدود المجالس فقط، بل تمتدّ إلى أماكن التجمّع أمام المآتم والمضائف، حيث ينبغي على الشباب، وكلّ فردٍ منّا، أن يلتزم بعدم إظهار أيّ سلوكات تتعارض مع جوّ الحزن من ضحكٍ مفرط، أو مزاحٍ غير لائق، أو أصواتٍ عالية، لأنّ ذلك لا يليق بمقام المصيبة العظمى التي نحييها كلّ عام.

* ثالثاً: الحضور المباشر في المجالس
إنّ الحضور المباشر في المجالس الحسينيّة له فضلٌ وثوابٌ لا يعادلهما حضور عبر التلفاز أو الإنترنت. فالحضور في المجمعات والمساجد والحسينيّات يحمل بركاتٍ عاطفيّة وروحيّة وفكريّة ومعنويّة لا توجد في المشاهدة المنفردة في البيت.

عندما يجلس الإنسان بين جموع المؤمنين الذين يبكون ويتأثّرون، تنتقل إليه هذه المشاعر بشكل أعمق، وتقوى لديه الرغبة في البكاء والتفاعل الحقيقيّ مع مصيبة الإمام الحسين عليه السلام. فالحضور الجماعيّ يولّد تأثيراً نفسيّاً ومعنويّاً قويّاً، فيكون الفرد جزءاً من جماعة تعيش الحزن معاً وتتشارك الأسى. ولذلك، كان التأكيد دائماً على أهميّة الحضور الشخصيّ في المجالس الحسينيّة، لأنّه السبيل الأعظم لنيل الرحمة، وذرف الدموع على مصاب سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

* رابعاً: عدم إزعاج الآخرين
يجب أن يقتصر استخدام الصوتيّات داخل مكان إحياء المجلس نفسه فقط، ولا داعي لاستخدام مكبّرات الصوت الخارجيّة قبل بدء البرنامج أو خلاله. السبب هو احترام جيراننا وتجنّب إزعاجهم، خصوصاً من ناحية السكّان القريبين الذين قد يكونون نائمين أو بحاجة إلى الراحة.

وبطبيعة الحال، ثمّة حالات تُقام فيها المجالس في أماكن مفتوحة مثل ملاعب كرة القدم أو الباحات الكبيرة، حيث لا مفرّ من انتشار الصوت بشكلٍ ما، لكن حتّى في هذه الحالات، يجب أن لا يتجاوز الصوت حدود المكان الذي يحتضن المجلس، فيسبّب ضرراً أو إزعاجاً مباشراً للناس.

ومن الجدير بالذكر أنّ ظاهرة رفع الصوت في الأحياء والمراكز انخفضت نسبيّاً في السنوات الأخيرة، وهو أمر مرحّب به، لكن لا يزال من الضروريّ التذكير بها والتوجيه بشأنها. فمثلاً، بعض الشباب أو الأشخاص قد يستمرّون في تشغيل اللطميّات أو النشيد الحسينيّ بصوت مرتفع في ساعات متقدّمة من الليل، ظانّين أنّهم يتقرّبون إلى الله بذلك، بينما هم في الحقيقة يؤذون الناس النائمين، ويعتدون على خصوصيّاتهم، ويؤثّرون سلباً في من يحتاجون للنوم لأسباب العمل أو المرض أو الشيخوخة. وهذا الأمر محرمٌ شرعاً؛ لأنّ التقرّب إلى الله لا يكون عبر إيذاء الآخرين، بل بالعفو، والرحمة، ومراعاة مشاعر الناس وحقوقهم.

* خامساً: المحافظة على النظافة وتقليل الازدحام
يجب أن نولي مسألة النظافة أهميةً في أماكن التجمّعات والمواكب الحسينيّة، فلا نترك النفايات في الشوارع أو على جوانب الطرقات، وأن نساهم في إبقاء البيئة نظيفة ومرتّبة، تعبيراً عن احترامنا للمناسبة وللمجتمع الذي نعيش فيه. كذلك من الأمور المهمّة، التقليل من استخدام السيّارات قدر الإمكان عند الذهاب إلى المجالس الحسينيّة.

ففي بعض المناطق، مثل الضاحية الجنوبيّة، ثمّة اكتظاظ مروريّ شديد أصلاً، فإذا زاد عدد السيّارات في أيّام العزاء، أصبح الأمر غير محتمل، وأدّى إلى تعطيل حركة المرور، وإزعاج السكان.

ومن هنا، يصبح الحضور إلى المجلس سيراً على الأقدام أمراً مفضّلاً، لما فيه من ثواب عظيم، فهو مشي إلى مكانٍ يُذكر فيه الله، ويُستمع فيه إلى القرآن، وتُحيا فيه سنن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.

وهذا المشي ليس فقط عملاً صالحاً، بل هو أيضاً وسيلة لتخفيف الاختناق المروريّ، وتسهيل التنقّلات، وتوفير جهدٍ وتعبٍ على الجميع.

بعض المجالس تتطلّب إجراءات أمنيّة خاصّة، مثل عدم السماح بدخول الهواتف أو فحص الحقائب، فإن كان بالإمكان الحضور من دونها، فهذا أولى؛ لأنّه يسهّل دخول المؤمنين والمؤمنات، ويجعل الأجواء أكثر هدوءاً وسكينة.

* سادساً: تنظيم المضائف
إنّ من أبرز الظواهر الإيجابيّة التي تطوّرت في السنوات الأخيرة، خصوصاً في موسم عاشوراء، هي ظاهرة المضائف والإطعام، التي اتّسعت بشكل ملحوظ في العام الماضي أكثر من سابقه، حيث أصبحت منتشرة في كلّ قرية ومدينة وحيّ، رغم الظروف المعيشيّة الصعبة التي يمرّ بها الكثير من الناس.

لكنّ المؤمنين، ابتغاءً للأجر والثواب، والتزاماً بمحبّتهم لأهل البيت عليهم السلام، ما زالوا يقدّمون هذا العمل الإنسانيّ العظيم، سواء كان ذلك على اسم الإمام الحسين عليه السلام أو الشهداء الذين ضحّوا في طريقه.

إنّ هذه الظاهرة ممتازة وأصيلة، وتعكس حالة التلاحم المجتمعيّ والروحيّ الذي يجب أن نحافظ عليه ونعزّزه، لا أن نتراجع عنه أو نلغيه بسبب وجود بعض الشوائب أو الأخطاء البسيطة التي قد تظهر أحياناً في بعض المضائف.

وهنا تجدر الإشارة إلى قاعدة منهجيّة مهمّة: عندما تكون لدينا ظاهرة إيجابيّة، لا ينبغي أن نلغيها أو نتوقّف عنها لمجرّد وجود بعض السلبيّات فيها، بل علينا أن نحافظ عليها ونصحّحها ونطوّرها .

من هنا، من المهمّ أن نوجّه اليوم دعوة إلى أصحاب المضائف وكلّ من يرغب في إقامة مضيف حسينيّ، بأن يكونوا حريصين على جانب التنظيم، والالتزام بالإجراءات التي تحدّدها البلديّات ومؤسّسات الدولة، وكذلك الجانب الصحيّ والنظام الداخليّ للمضيف.

كما يجب التركيز على:
1. نوعية الطعام والشراب: إنّ تقديم الطعام في مناسبة حزنٍ وعزاء، يختلف عمّا هو عليه في الأفراح أو مناسبات الفرح، بل يجب أن يكون متواضعاً ولائقاً بروح المناسبة.
2. تجنّب الإسراف والتبذير: سواء من قِبل القائمين على المضيف أو الضيوف، فالهدف هو الإكرام وخدمة الضيف، وليس التفاخر أو تقديم الكميّات الكبيرة بلا حاجة.
3. توزيع الفائض: بما أنّ بعض المواد الغذائيّة تكون طازجة وصالحة، يمكن توزيعها بعد انتهاء المجلس على العائلات المحتاجة التي قد لا تحضر هذه المجالس، ليكون العمل كاملاً من بدايته إلى نهايته.

هذه التوصيات ليست مجرّد تعليمات إداريّة أو تنظيميّة، بل هي دعوةٌ روحيّة إلى المراقبة الذاتيّة والحرص الدقيق على الحفاظ على الروح الحقيقيّة للإطعام الحسينيّ. فالمطلوب أن تبقى هذه الظاهرة عنواناً حضاريّاً للعطاء والتآزر، ولا تكون سبباً في الإزعاج أو الفوضى، بل أن تكون جزءاً من ثقافة المسؤوليّة والإحسان التي علّمنا إيّاها أهل البيت عليهم السلام.


*من كلمة لسماحته (رضوان الله عليه) بتاريخ: 7/7/2024م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع