تحقيق: شيرين حميّة قنديل
في بداية فترة الاحتلال الإسرائيليّ لجنوب لبنان، شنّ العدوّ الصهيونيّ اعتداءاته على أهالي بلدة معركة الجنوبيّة، ودمّر المساجد بحثاً عن صاحب الاسم الذي يُهتف باسمه في مسيرات تتّشح بالسواد وتشتدّ فيها الهتافات الحسينيّة، ويتعالى صوت المؤمنين بنداء: «يا حسين»! وهو ما أثار رعبهم وهلعهم، فراحوا يبحثون عنه خائبين، دون أن يدركوا أنّ الاسم ليس لإنسان عادي، بل هو اسم سيّد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام، وأنّ اليوم هو العاشر من المحّرم، يوم الثورة والعزّة، حيث يخرج المحبّون ليحيوا ذكرى المظلوم بكلّ قوّة وإيمان.
يومها، وفي ظلّ الهتافات المتلاحقة وصدى اللطم الذي عمّ المجالس الحسينيّة، زاد رعب المحتلّ عندما أطلق الشهيد الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه) عبارته التاريخيّة: «نعلن لحامل راية الإمام الحسين عليه السلام أنّنا وفقاً لإرشاداته، هزئنا بالاحتلال، ولا نزال نهزأ به»، ليُظهر كيف أنّ روح الإمام عليه السلام كانت حاضرةً في قلوب الثائرين.
من بين الذين حملوا هذه الرسالة بصدق، كان الرادود الذي يصدح بالعزاء، والشاعر الذي يصوغ الكلمات مواساةً للإمام عليه السلام، واللاطم الذي يترجم الإيمان إلى فعلٍ جسديّ حقيقيّ. نطلّ في هذا المقال على وجوهٍ وأصواتٍ كانت حلقة وصلٍ حيّة بين عاشوراء الأمس وواقعنا اليوم.
* أوّلاً: موكب أبي الفضل «الحفاة»
في كلّ ذكرى لعاشوراء، وفي مجمع سيّد الشهداء عليه السلام، تظهر مجموعة من الرجال معصوبي الرؤوس، يرتدون زيّاً موحّداً، غالباً ما يكون باللون الأسود والأخضر وأحياناً الأحمر، يقفون في صفوف منظّمة، وينتظرون إشارة واحدة. وبمجرّد أن تُرفع، يهبّون جميعاً في لطم واحد. ومن حولهم، يلتفّ المؤمنون الحاضرون في المجمع، فيحاكون طريقتهم في اللطم. هؤلاء هم فريق «موكب أبي الفضل»، والمعروفون أيضاً باسم «الحفاة».
يسرد الحاج ماهر منصور، أحد مؤسّسي هيئة مواكب سيّد الشهداء عليه السلام، لمجلّة بقيّة الله كيف كانت البدايات، وكيف انطلقت من مجمع سيّد الشهداء عليه السلام في الضاحية الجنوبيّة لبيروت. يقول في هذا السياق: «كان همّ سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) توحيد الجهود في إحياء تلك المراسم، وقد سبقه في هذا التوجيه سماحة السيّد الشهيد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه). وهكذا، امتزجت تلك التوجيهات بدماء الشهداء، فكانت الشرارة التي ألهمت الرواديد والشعراء، حتّى تشكّلت مجموعة صغيرة سمّيت بركن نصير الحسين عليه السلام».
يتابع الحاجّ منصور حديثه قائلاً: «كانت هذه المجموعة تسعى إلى تحقيق هدفين أساسيّين: أوّلهما: تقديم شعيرة اللطم الحسينيّ بشكل يعكس القيم العميقة والبسالة. وثانيهما: تصحيح الانحرافات التي طالت بعض التراث العاشورائيّ، خاصّةً تلك التي تقوم على إيذاء الجسد وإلحاق الضرر به، ونبذ المظاهر السلبيّة التي لا تعكس الثقافة الحسينيّة الأصيلة». ويضيف: «حفظاً لهذه الدماء واستفادة منها في مكانها الصحيح، شجّعت الهيئة الصحيّة الإسلاميّة على التبرّع بالدم، وسعت إلى استقطاب الشباب ليكونوا جزءاً من هذا المشروع. ومع مرور السنوات وتواصل الجهود، نشأت هيئة سيّد الشهداء عليه السلام، والتي يمثّلها موكب أبي الفضل العبّاس عليه السلام (الحفاة)»، التي تخرّج منها مجموعة رواديد كان لهم الدور الكبير في صناعة النصر المعنويّ في نفوس الشبّان خلال سنوات الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان، وقد انتشرت أعمالهم ولطميّاتهم على امتداد العالم العربيّ والإسلاميّ».
* في اللطم رسالة الثوّار
يؤكّد الحاجّ منصور أنّ سماحة سيّد شهداء الأمّة كان القائد الحقيقيّ لمشروع صناعة أجيال حسينيّة تتحمّل مسؤوليّة الغد، إذ كان يتابعه بشكل حثيث ويخصّص لهيئة سيّد الشهداء توجيهات مباشرة؛ منها:
1. ترسيخ تعبير «استشهاد» الإمام الحسين عليه السلام وليس «مقتل»؛ لأنّه سيّد شهداء أهل الجنّة.
2. التركيز على الأجيال الصاعدة، ومخاطبتهم في القصائد والعبارات.
3. زرع العقيدة ببساطة الكلمة وسهولة اللحن.
4. ارتباط اللطميّة بالإمام الحسين عليه السلام وقيمه وأهداف ثورته، لا الاستغراق في التباكي ومشاعر الفقد فقط، فيكون الشعر هادفاً وغنيّاً بالمعاني ورساليّاً.
5. الصدق في تصوير الإحساس بقضيّة الإمام الحسين عليه السلام. وكان سماحته يقول: «يجب أن ينطق القلب باللطميّة لا اللسان».
6. وقوف اللاطمين بشموخ وهم يرفعون رؤوسهم وصدورهم مملوءة بالعزّة، فيكون اللطم معبّراً عن العزّة والشجاعة والبسالة؛ لأنّ شعار سماحته الدائم: «هيهات منّا الذّلّة»، فالانحناء في اللطم في قاموس سماحته يوحي بالضعف والخضوع والاستسلام، فأراد (رضوان الله عليه) بهذا التوجيه تقويم اعوجاج السيرة المقتصرة على النواح والبكاء والانكسار.
يضيف منصور أنّ الهيئة أنتجت لطميّات تحاكي هذا التوجيه مثل: لطميّة «أين نصر الله أين؟» للرادود حسين خير الدّين، الّتي انتشرت على نطاق واسع لأنّها تحاكي الوجدان وتخرج من العمق. كما أنّها توظّف الشعارات الجهاديّة في اللطميّة الحسينيّة، مثل: «الموقف سلاح والمصافحة واعتراف»، و«اقتلونا فإنّ شعبنا سيعي أكثر فأكثر»، و«عندما نستشهد ننتصر».
يتابع منصور قائلاً: «لم يكن ثمّة أمر يشغل سماحته (رضوان الله عليه) عن متابعة ملفّ اللطم، فلم يتخلّ عنه لحظة واحدة، وكان يولي اهتماماً خاصّاً بشعراء اللطميّات، ويتابع تفاصيل كتاباتهم، ويتبنّى من بينهم من أبدع كلمات حرّة تحمل روح الثورة والمقاومة. وكان له عناية خاصّة بأولئك الذين برزوا من الإخوة والأخوات الذين كتبوا الشعر على طريق القدس».
* العقيلة أوّل الثوّار
وللسيّدة زينب عليها السلام نصيب أيضاً من اهتمام سماحته، عن ذلك يقول منصور: «كان سماحته يرفض إظهار السيّدة زينب عليها السلام بمظهر المسبيّة الضعيفة المكسورة. فكيف تكون كذلك وهي حفيدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنة أمير المؤمنين والزهراء عليهما السلام؟ بل كان يشدّد على إبراز الشخصيّة الحقيقيّة للعقيلة عليها السلام، تلك السيّدة التي وقفت شامخةً أمام ابن زياد، وأخرست لسان الطاغية يزيد. هي السيّدة التي لوّحت بيدها فصمت جميع من في القاعة، والتي تولّت أمر النساء والأيتام، وقالت في أحلك لحظات الابتلاء: “ما رأيت إلّا جميلاً”. وقد أصبحت اليوم قدوة حقيقيّة لأمّهات الشهداء وأخواتهم وزوجاتهم وبناتهم أيضاً. وهي السيّدة التي أشار إليها الشاعر في لطميّة “في درب فاطمة الشريفة” أنّها أوّل الثوار، فكيف يصحّ أن نقدّمها بمظهر المكسورة الضعيفة؟».
* ثانياً: توصياته للرواديد
إلى جانب كلّ هذا الاهتمام، أولى سماحته اهتماماً بعمل الرواديد. منهم:
1. الشيخ حسين الأكرف: كان له نصيب كبير في أن يلتقي بسماحته ويستمع إلى توجيهاته وعنايته. يروي الشيخ الأكرف لمجلّة بقيّة الله: «التقيت بسماحته عام 2015م للتشرّف بخدمة الإمام الحسين عليه السلام من خلال اللطميّات، وقد أبديت حينها رغبتي في البقاء في لبنان، فرحّب بذلك وشجّعني بشدّة. تمحور اللقاء حول حرص سماحته على تأسيس كوادر فاعلة ومؤثّرة في مسألة المجالس الحسينيّة واللطم، وترويج هذه الثقافة التي تجمع بين التراث الأصيل والمعاصرة، مبدياً كلّ عطفه وعنايته لدعم هذا المشروع». يتابع الشيخ: «نتج عن هذه اللقاءات المباركة تأسيس هيئة (ثار الله) في مجمع الإمام الكاظم عليه السلام، حيث بدأنا باستقطاب الأصوات والمواهب، وانتقاء من يمتلك الأداء الذي يتناسب مع الهدف الأسمى الذي يرمي إليه سماحته (رضوان الله عليه). وتحت إشراف مباشر من سماحة الشهيد العزيز السيّد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه)، درّبت الهيئة مجموعة من الرواديد الملتزمين بهذه التوجيهات. ومن رحم هذه التجربة، ولدت هيئات عدّة تولّت مهمّة التدريب أيضاً».
* التوجيهات
يقول الشيخ الأكرف: «لم يهمل سماحة السيّد في توجيهاته أيّ تفصيل، مهما بدا بسيطاً، فشملت حتّى اللباس واللطم، ووضع ضوابط لاختيار الألوان بما يتناسب مع الانضباط الأخلاقيّ والشرعيّ». ويتابع: «كان دائماً يشدّد على النّظر إلى روح الأهداف الحسينيّة، لا إلى الشكل فقط، فالدمعة ليست غايةً بحدّ ذاتها بل وسيلة ومقدّمة لهدف أعظم، وهو إقامة حكم الله على الأرض». أمّا توجيهات سماحته المباشرة بحسب الشيخ الأكرف، فهي:
1. تقديم نموذج أصيل في اللحن والنصّ الحسينيّين، وفي الهيئة والشّكل والمضمون. وذلك من أجل بلورة نموذج مميّز وفريد يحافظ على أصالة العزاء والرثاء الحسينيّ، فلا تكون هذه المنصّة نسخة مكرّرة للمنصّات السياسيّة، بل منارة عقائديّة، وأساساً أخلاقيّاً، ومسرداً رثائيّاً، ووسيلة لتعزيز الانتماء الولائيّ الصادق، تترسّخ من خلالها العلاقة الرّوحانيّة بين المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام.
2. إنتاج أعمال أو لطميّات في كلّ مناسبة أو ذكرى خاصّة بأهل البيت عليهم السلام، تقدّم تاريخهم وظروف زمانهم ومواقفهم للأجيال القادمة.
3. الاهتمام بعوائل الشهداء، وخصوصاً أبناءهم، الذين فقدوا آباءهم في ميادين القتال في طريق الإمام الحسين عليه السلام، دفاعاً عن الإسلام وكرامة الإنسان.
* رثاء السيّد
تحت وطأة الحزن الثقيل، يروي الشيخ الأكرف ذكرى تصاحبها الدمعة: «من عرف السيّد لا يملك إلّا أن يكون وفيّاً لعهده. بعد شهادته وفقده، تصارعت مشاعر الحزن مع الواجب، يومها، لم أتمكّن من تنسيق نصّ شعريّ يناسب قامة السيّد، حتّى استمعت إلى قصيدة الشاعر معاذ الجنيد، وبعد التواصل معه، اخترت بعض أبياتها، فلُحّنت وسُجّلت في ظروف صعبة في قمّ، فكان النتاج سلوى الفاقد الحزين، ونزل العمل باسم القصيدة: لقداسته».
2. الرادود يوسف سعد: «ازرعوا معنى التكليف في هذا الجيل»، وحدها هذه العبارة التي وردت في عمل فنّيّ جهاديّ يحمل عنوان التّضحية والكرامة حيث "للحرب مضى شبّان" كفيلة بأن تختصر معاني وقيماً تحدّد سلسلة من توصيات سماحة الشهيد الأقدس (رضوان الله عليه) لتربية الأجيال الصاعدة على هذا النهج، وبثّ روح العزّة والبطولة في نفوسهم، وترسيخ العقيدة عبر الفكر العاشورائيّ.
حول هذا الموضوع، يقول الرادود يوسف سعد للمجلّة إنّ سماحته أوصى الرواديد أيضاً: «بأن تكون القصيدة الحسينيّة ذات مضامين هادفة تحمل دروس كربلاء، وتؤدّى بألحان لائقة وأجواء مناسبة للعزاء لا ألحان وأجواء صاخبة، وأن تلحّن بطريقة حزينة تُجري الدمعة وتحرّك المشاعر حزناً واعياً على أهل البيت عليهم السلام». مشيراً إلى أنّه: «يمكن القول بأنّ ثمّة فئة كبيرة التزمت بهذه التوجيهات وعملت بها، ولكن مع الأسف، لا تزال بعض الفئات لا تلتزم بشكل تامّ بهذه التوصيات، على أمل أن نرى عكس ذلك هذا العام».
ليوسف سعد وغيره من الرواديد الملتزمين بخدمة الرسالة التربويّة من القضيّة أعمال عدّة، فلطميّة «للحرب مضى شبّان»، و«بالشهداء لبّيك يا حسين» وغيرهما هي لطميّات تروي حكايات شباب المقاومة الإسلاميّة كيف دافعوا عن الأرض والعرض بعبارات واضحة ولحن قويّ:
من أجمل ما قدّمنا
عشرات القادة منّا
معنى توحيد الله
منهم إنّا فُهِّمنا
يستند يوسف في حديثه عن أثر اللطميّة الملتزمة إلى التسجيلات التي تُظهر الشهداء وهم يستمعون إلى لطميّات محدّدة وترديدها مع الرادود بروحيّة عالية قائلاً: «كنّا نراهم كأنّما جوارحهم هي التي تنطق بتلك الكلمات النابعة من قلوبهم». وأضاف: «كانوا بهذه الروحيّة وهذا التفاعل يتسابقون إلى الخطوط الأماميّة دون تردّد شوقاً للوصال ونيل الشهادة».
* إنّا على العهد
أجمع منصور والشيخ الأكرف على أنّ ما وصلهما من توجيهات سماحته هو تكليف سيستمرّ الالتزام به خدمةً للإمام الحسين عليه السلام، وبحسب منصور: «سنخرّج مزيداً من الأجيال التي تحمل وعياً عميقاً بالإمام الحسين عليه السلام ونهجه». أمّا الشيخ الأكرف، فيرى أنّ ليس في هذا العصر من قدّم أنموذجاً لخدّام الإمام عليه السلام كما فعل السيّد، فمن أقلّ الوفاء لهذا القائد أن نحمل وصيّته أمانة. فيما يختصر الرادود سعد موقفه: «إنّ شهادة السيّد زادتنا تمسّكاً بمواقفه وتوجيهاته»؛ لذلك، يعمل سعد الآن على قصيدة جديدة، ستُسَجَّل وتُنشر قريباً من تاريخ إعداد هذا التحقيق، تحمل في عنوانها موقف أبناء سماحته أبداً: «كنّا وما زلنا على العهدِ».