نور روح الله | بالدموع الحسينيّة قضينا على الاستكبار* بمَ ينتصر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ (2)* فقه الولي | من أحكام النزوح تحقيق | قصائدُ خلف السواتر مناسبات العدد ياطر: إرثٌ في التاريخ والمقاومة (2) محميّة وادي الحجير: كنزُ الجنوب الصامد (1) قصة | وزن الفيل والقصب شعر | يا ضاحية الافتتاحية | لحظة صدقٍ مع اللّه

استشعروا الحزن في عاشوراء

الشيخ باقر حسين


"في الحقيقة، عندما يهلّ هلال المحرّم، تأتي مناسبة الحزن الحقيقيّ. قبل إظهار الحزن، ونشر الأعلام، ولبس السواد، وإحياء المجالس، ثمّة شيء جوهريّ ‏وأساسيّ، وهو أنّ كلّ واحد منّا يجب أن يشعر بالحزن، والأسى، والألم، عندها، تبدأ المواساة الحقيقيّة"(1).
واحدة من وصايا شهيد الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) في عاشوراء من عام 2024م، هي استشعار الحزن؛ لفهم طبيعة المناسبة ورسالتها، ثمّ الاهتمام بمظاهره بوصفه مواساةً لأهل البيت عليهم السلام.
انطلاقاً من هذه الوصيّة الثمينة، سنتناول دور الحزن وتأثيره في الإنسان وسلوكه، ومظاهره المطلوبة في عاشوراء، علّنا نكون من المواسين الممهّدين لدولة الحقّ.

* دور الحزن
الحزن ليس مجرّد شعور عابر، بل هو جزء من منظومة الإيمان والوعي الإنسانيّ، يدفع المؤمن إلى التفاعل العاطفيّ والوجدانيّ مع قضايا الدين والناس، ويكون سبباً للارتقاء الروحيّ وتحقيق التغيير المطلوب في الذات والمجتمع. من هنا، يتجلّى دور الحزن في أمرين أساسيّين:

1. الحزن من الدين: إنّ حياة الإنسان مليئة بالأحداث، سواء تلك التي تتعلّق بنفسه وعائلته أو بالمجتمع من حوله كالأرحام والأقارب والجيران وأهل البلاد القريبة والبعيدة. والمؤمن بالله سبحانه وتعالى عليه أن يهتمّ بالأحداث وينفعل معها ويتّخذ موقفاً دينيّاً؛ ولأنّ الله امتحنه وابتلاه بذلك، فعليه أن يكون في معسكر أهل الحق ويختبر إيمانه وإنسانيّته، وهذا ميزانٌ يمكن القياس به، فيفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فعن مسمع بن عبد الملك قال:
قال لي أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام: "أما تذكر ما صُنع به -يعني بالإمام الحسين عليه السلام-؟ قلت: بلى، قال: أتجزع؟ قلت: إي والله، وأستعبر بذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك عليّ، فأمتنع من الطعام حتّى يستبين ذلك في وجهي، فقال: رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، أما إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك، ووصيّتهم ملك الموت بك وما يلقونك به من البشارة أفضل، ولملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة لك من الأمّ الشفيقة على ولدها"(2).

2. الحزن دافع للتغيير: عندما يحصل الحزن في القلب، لا يعني ذلك الانكسار والشعور بالهزيمة والخسران واليأس من الحياة، بل لا بدّ من أن يكون عاملاً مؤثّراً ودافعاً قويّاً للتغيير والإصلاح واستنهاض الهمم والسعي للتكامل. فالحزن بهذا المعنى لا يختصّ بالحاضر فقط، بل يشمل الماضي وما فات (حتّى لو كان من آلاف السنين) إذا كان يحمل مشروعاً إلهيّاً لبناء الإنسان وهدايته إلى الحقّ. ولذلك، نستحضر الماضي ونحزن له ونبكي عليه انسجاماً مع فطرتنا وإنسانيّتنا. ففي نهج البلاغة في وداع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسهّد، حتّى يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم"(3). وعن سيّدتنا ومولاتنا الزهراء عليها السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام بنى لها بيت الأحزان وكانت تبكي أباها حتّى رحلت عن الدنيا، لأنّهم -صلوات الله عليهم- يرون الحزن في هذا الموقف نصرة لدين الله سبحانه وحفظاً لمشروع النبوّة والولاية.

* موسم التربية بالحزن
إنّ الله سبحانه وتعالى جعل مواقيت للناس، وكلّ ميقات يعدّ فصلاً مهمّاً في حياة المؤمنين ليكون مذكّراً لهم بعبوديّتهم لله سبحانه، التي هي معراج القرب إلى لقاء الحبيب المطلق ووصاله، ومنها الحجّ إلى بيت الله الحرام، وصيام شهر رمضان المبارك، وأيّام عاشوراء؛ فهي جميعاً أيّام الله. لهذا، نحزن في عاشوراء، وقد تواترت السيرة منذ شهادة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام إلى يومنا هذا بأن تقام مراسمها، لأنّها تشكّل مفصلاً أساسيّاً يرتبط بعقيدتنا وإيماننا بالله سبحانه، فالذي لا يلتفت إلى عاشوراء وما جرى فيها، ولا يحزن أو يرقّ قلبه، عليه أن يراجع إيمانه بالله سبحانه. وشعيرة الحزن التي هي من شعائر الله سبحانه تتجلّى في أمور:

1. الحزن شراكة أهل البيت عليهم السلام: اعتدنا في محافل العزاء أن نعبّر عن مشاركتنا أهل العزاء في حزنهم. وبهذا المعنى، عندما نلبس السواد، فهو تعبير عن مشاركة أهل البيت عليهم السلام حزنهم، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "رحم الله شيعتَنا -شيعتنا والله هم المؤمنون- فقد والله شاركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة"(4).

2. خصوصيّة الحزن في يوم عاشوراء: عن الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ يوم الحسين عليه السلام أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاء أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين عليه السلام فليبكِ الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام"(5).

3. لتكون معهم عليهم السلام في أعلى الدرجات: قال الإمام الحسين عليه السلام: "يا بن شبيب، إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان، فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أنّ رجلاً أحبّ حجراً لحشره الله عزّ وجلّ معه يوم القيامة"(6).

* أشكال التعبير عن الحزن
إنّ الحزن على سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ليس مجرّد مشاعر داخليّة، بل هو موقفٌ عباديٌّ وسلوكٌ عمليٌّ يأخذ أشكالاً متعدّدة:

1. ذكر مصائبه عليه السلام: وذلك بالمشاركة في مجالس العزاء، ولا يكتفي الموالي بالاستماع إلى الخطباء والقرّاء والحضور في المجالس الحسينيّة، بل لا بدّ من الاهتمام بالاطّلاع على سيرته عليه السلام الذاتيّة والعباديّة وغيرها من خلال المطالعة والدارسة والتأمّل واختبار الحزن الفرديّ عندما يخلو بنفسه.

2. الصلاة عليه عليه السلام وزيارته: عن الحسين بن ثور: كنت أنا ويونس بن ظبيان والمفضّل بن عُمَر وأبو سلمة السراج جلوساً عند أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، وكان المتكلّم منّا يونس، وكان أكبرنا سنّاً، فقال له: جُعلتُ فداك! إنّي أحضر مجلس هؤلاء القوم -يعني ولد العبّاس- فما أقول؟ فقال عليه السلام: "إذا حضرت فذكرتنا فقُل: الّلهم أرنا الرخاء والسرور، فإنّك تأتي على ما تريد، فقلت: جُعلتُ فداك: إنّي كثيراً أذكر الحسين عليه السلام، فأيّ شيء أقول؟ فقال: قل: (صلّى الله عليك يا أبا عبد الله) تعيد ذلك ثلاثاً، فإنّ السلام يصل إليه من قريب ومن بعيد"(7).

وأمّا بالنسبة إلى الزيارة، فلا بدّ من المواظبة على زيارة عاشوراء، خصوصاً في أيّام المحرّم الحرام، التي وردت عن الإمام الباقر عليه السلام، وكذا زيارة وارث المذكورة في كتاب مفاتيح الجنان.

3. لبس السواد: أي لبس السواد الذي يكون مناسباً لحال أهل العزاء والتعبير عن الحزن، ولا يكون فيه ما يُعدُّ زينة أو خروجاً عن المألوف. كما ينبغي تعميم اللباس الأسود للصغار والكبار، رجالاً ونساءً، لأنّه يشكّل رسالة لمحبّي أهل البيت عليهم السلام، ورفضاً للظلم وانتصاراً للحقّ.

وكذلك، ينبغي تعليق اليافطات على شرفات المنازل وعلى أعلى الأبواب الخارجيّة عند المداخل، وأن تكون ممّا كُتب عليها كلمات الإمام الحسين عليه السلام، فإنّ ذلك كلّه من تعظيم شعائر الله.

4. ذكر مصائبه عليه السلام عند شرب الماء: عن داوود الرقّي: كنت عند أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام إذ استسقى الماء، فلمّا شربه رأيته وقد استعبر، واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال عليه السلام: "يا داوود، لعن الله قاتل الحسين عليه السلام، فما أنغص ذكر الحسين عليه السلام للعيش، إنّي ما شربت ماءً إلّا وذكرت الحسين عليه السلام، وما من عبد شرب الماء فذكر الحسين عليه السلام ولعن قاتله إلّا كتب الله له مئة ألف حسنة ومحا عنه مئة ألف سيّئةٍ، ورفع له مئة ألف درجة، وكان كأنّما أعتق مئة ألف نسمة، وحشره الله يوم القيامة أبلج الوجه (أي مشرق الوجه)"(8).

* آداب الحزن يوم عاشوراء
يستحبّ على المؤمنين اتّباع آدابٍ مناسبةٍ للحزن والأسى، تعبيراً عن تعظيمهم لهذه المصاب الجلل:

1. تعظيم مصيبة عاشوراء: كما ورد في زيارة عاشوراء: "لقد عظمت الرزية وجلّت، وعظمت المصيبة بك علينا وعلى جميع أهل الإسلام وجلّت، وعظمت مصيبتك في السماوات على جميع أهل السماوات".

2. تعطيل الأعمال اليوميّة: عن الحسن بن فضال عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: "من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء، قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة. ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه، جعل الله عزّ وجلّ القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه"(9).

3. الاجتناب عن الملذّات: ورد في الروايات اجتناب الملاذ في هذا اليوم، وإقامة سنن المصائب، والإمساك عن الطعام والشراب إلى أن تزول الشمس، والتغذّي بما يتغذّى به أصحاب أهل المصائب.

4. شدّة الحزن والبكاء: عن الإمام الرضا عليه السلام: "كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيّام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين (صلوات الله عليه)"(10).

5. تعزية المؤمنين بعضهم بعضاً: عن مالك الجهنيّ سُئل الإمامُ أبو جعفر الباقر عليه السلام قلت: كيف يعزّي بعضهم بعضاً؟ قال عليه السلام: يقولون: عظّم الله أجورنا بمصابنا بالحسين عليه السلام، وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثأره مع وليّه الإمام المهديّ من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم(11).

* الحزن تجديد العهد لإمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
عندما نحيي شعيرة الحزن، فنحن نشارك إمام زماننا عجل الله تعالى فرجه الشريف حزنه، وهو القائل: "فلئن أخّرتني الدهور، وعاقني عن نصرتك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساء، ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً، حسرة عليك وتأسّفاً على ما دهاك وتلهّفاً"(12). وهذا الحزن أحد أشكال الدعاء لتعجيل الفرج لنكون من الممهّدين والطالبين بثأره، وبذلك، نتوجّه إلى حضرة بقيّة الله عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي هو صاحب العزاء في هذا اليوم فنجدّد له العهد بالنصرة والوفاء والسير على نهجه، وهو أيضاً تجديد العهد بالبقاء على نهج وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ دام ظله والعلماء والقادة الذين سلكوا هذا الطريق وقدّموا أنفسهم فداء له، وفي مقدّمهم سيّد شهداء المقاومة وشيخها وقادتها وسيّد شهداء الأمّة وصفيّه (رضوان الله عليهم جميعاً).


(1) من خطبة سماحة شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، ليلة عاشوراء الأولى 2024م.
(2) وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 14، ص508.
(3) نهج البلاغة، ج 2، ص 182.
(4) بحار الأنوار، العلامة المجلسيّ، ج 43، ص 221.
(5) المصدر نفسه، ج 44، ص 284.
(6) عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 499.
(7) الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 4، ص 575.
(8) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 205.
(9) عيون أخبار الرضا، مصدر سابق، ج 1، ص 268.
(10) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 191.
(11) كامل الزيارات، ابن قولويه، ص 326.
(12) المزار الكبير، ابن المشهدي، ص 496، زيارة الناحية المقدّسة رواها ضمن زيارات عاشوراء.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع