حوار: الإعلاميّ قاسم بيضون
انطلاقاً من توصيات سماحة السيّد الشهيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) للقرّاء والخطباء في المجالس العاشورائيّة، والتي تركّز على الاهتمام بالمنبر الحسينيّ باعتباره منبراً للتاريخ والعقيدة، يعلّم الناس كيف يرسمون حاضرهم انطلاقاً من أصالة الماضي، كانت لسماحة الشيخ علي سليم تجربة مميّزة في خدمة هذا المنبر، تحديداً في المجلس العاشورائيّ المركزيّ، حيث كُلّف بهذه المهمّة منذ بدايات إقامته.
في هذا الحوار، يحكي لنا الشيخ علي سليم عن تجربته الخاصّة في خدمة المنبر الحسينيّ، وعن كيفيّة مواكبة سماحة السيّد الشهيد عمل المنبر وتفاصيل إشرافه المستمرّ عليه، كما يستعرض قصّة تكليفه الرسميّ، وأبرز التوجيهات التي واكبت عمله لسنوات طويلة.
* كيف كانت البدايات في خدمتكم المنبر الحسينيّ؟
كان لي شرف أن وُفّقت لخدمة هذا المنبر الحسينيّ الشريف. في البداية، كنت أقرأ في مجالس الأصدقاء وروّاد المسجد، حيث كان لدينا مجلس أسبوعيّ دائم يتجمّع فيه المؤمنون للعزاء وللذكر الحسينيّ. ثمّ بدأ حزب الله بإقامة ما عُرف لاحقاً باسم المجلس العاشورائيّ المركزيّ، وكانت أوّل تجربة في باحة الإمداد في حارة حريك. في تلك المرحلة، لم يكن سماحة السيّد (رضوان الله عليه) هو المسؤول المباشر عن المجلس، بل كانت الوحدة الثقافيّة هي الجهة المعنيّة بتنظيم البرنامج كاملاً، بما في ذلك اختيار القارئ أو الخطيب. في المجلس الأوّل، كان الشيخ خليل رزق هو المسؤول الثقافيّ آنذاك، وقد استضاف مجموعةً من الخطباء من قمّ المقدّسة، من بينهم عراقيّون وأهوازيّون. لكن حدث أن ألمّ بأحد القرّاء الكرام عارضٌ صحّيّ في الليلة الثالثة، وهنا، تواصل معي المعنيّون على خلفيّة أنّني كنت أقرأ في مجالس الشهداء ومجالس حزب الله، وطلبوا منّي أن أتفرّغ لهذا المجلس، فانتقلتُ إليه من الليلة الثالثة أو الرابعة حتّى العاشرة.
كان ذلك في الفترة ما بين عامَي 1993م و1994م، وكنت وقتها قد ارتديت العمَّة، وكانت هذه البداية الفعليّة لي في القراءة ضمن المجالس المركزيّة. ومع مرور الوقت، تطوّر المجلس وصار يخضع لإشراف مباشر من سماحة الأمين العام الشهيد (رضوان الله عليه)، بصفته الوكيل العامّ للإمام الخامنئيّ دام ظله، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من التوجيه والرعاية الخاصّة.
* هل كانت بدايات علاقتكم بسماحة السيّد (رضوان الله عليه) من خلال هذه التجربة تحديداً؟
نعم، هنا تحديداً أصبح سماحة السيّد (رضوان الله عليه) هو الموجّه المباشر للخطيب الذي يقرأ في المجلس. كانت بيننا علاقة معرفة وتتلمذ، فقد كنت من جملة الطلبة الذين تشرّفوا بحضور مجلس سير وسلوك عند سماحته. وكان ثمّة نوع من الانسجام أو ما يُشبه وحدة الحال إن صحّ التعبير.
أتذكّر أوّل تجربة مباشرة لي مع سماحة السيّد قبل أن أرتدي العمَّة، وذلك عند وفاة الإمام الخمينيّ قدس سره. وقتها، كان بيت السيّد حسن في بئر العبد بجانب مسجد الإمام الرضا عليه السلام، فاجتمع المؤمنون في باحة المسجد، ووقف السيّد خطيباً يتحدّث عن الإمام قدس سره، والثورة، والجمهوريّة الإسلاميّة. وفي منتصف المجلس، التفت إليّ وقال: «يا شيخ عليّ، اقرأ قليلاً من العزاء». كما قرأت حينها ندبيّة هادئة بعنوان «نور عيني يا خميني، يا حفيداً للحسين». كانت هذه أوّل مرّة أقف أمامه لأقرأ، وكانت بداية تواصل مباشر بيننا.
ثمّ انتقلت للقراءة في باحة الشهيد أحمد قصير في الشارع المسمّى باسمه، ثمّ أصبحت القراءة تتمّ في مجمع سيّد الشهداء عليه السلام، والتي لاقت أكبر حضور واهتمام.
* هل جمع بينكما لقاء خاصّ؟
نعم، كان ذلك قبل عام 2000م، وكان سماحة السيّد (رضوان الله عليه) حريصاً كلّ الحرص على أن يخصّص لي جلسة خاصّة قبل أيّام عاشوراء من كلّ عام، يتفضّل فيها بتقديم التوصيات والتوجيهات المناسبة. وأذكر من بين الأمور التي أحبّ أن أشير إليها، أنّني كنت أكتب بعض القصائد الرثائيّة للإمام الحسين عليه السلام، فأعرضها عليه وأستشيره فيها بقولي: «ما رأيكم سيّدنا بهذه الأبيات؟». فيستمع إليها باهتمام، ويُبدي رأيه بكلّ تواضع، موضّحاً ما يرى أنّه يصلح فيها أو يقترح حذفه أو تعديله. كان لسماحة السيّد (رضوان الله عليه) هاجسٌ كبير في أن يكون الخطاب الحسينيّ خطاب جمعٍ لا فُرقة، ووحدةٍ لا تمزّق. كان يحرص على أن يكون هذا الخطاب موجّهاً إلى الجميع، دون إثارة أيّ نعرات مذهبيّة أو طائفيّة، ولا يستفزّ أيّ طرف. وكان يرى أنّ المنبر الحسينيّ ليس منبراً للصراع، بل للوعي والتوجيه والإصلاح.
وأكّد سماحته مراراً أنّ المجالس الحسينيّة التي يقيمها حزب الله تخضع لضوابط وسياسات واضحة، تتعلّق بالمضمون والأسلوب والشكل، ونحن كخطباء وقرّاء نتلقّى هذه التوجيهات سنويّاً، ونلتزم بها بإخلاص. ومن ضمن هذه الممارسات المهمّة، كان سماحة السيّد يعقد لقاءً سنويّاً عامّاً مع جميع القرّاء والخطباء والمشاركين في خدمة المنبر الحسينيّ. في هذا اللقاء، كان يوجّه توجيهات ثقافيّة مباشرة تتعلّق بطبيعة العزاء، وآليات تقديمه، وبما يتلاءم مع المتغيّرات والأحداث الراهنة.
* ما هي أهمّ التوصيات الخاصّة التي وجّهها لكم سماحة السيّد (رضوان الله عليه) قبل عام 2000م؟
كان سماحة السيّد (رضوان الله عليه) يؤكّد في توجيهاته على ضرورة التركيز على السيرة الحسينيّة؛ لأنّ ثمّة دائماً أجيالاً جديدة تتعرّف على القصّة لأوّل مرّة. كان يطلب منّا أن نقدّم هذه السيرة بأسلوبٍ جاذب ومؤثّر، ونستند إلى مصادر معتبرة وموثوقة، حتّى لا يكون ثمّة أيّ تعرّض لمضمون قد يُساء فهمه، أو يُسيء إلى قدسيّة المناسبة وشخصيّة الإمام الحسين عليه السلام. ومن بين المواضيع التي كانت تشغلني في عملي، مسألة الشعر الحسينيّ. كنت أحياناً أسأله: «ما رأيكم أن أختار شعراً جديداً، أم نعود إلى القصائد القديمة المعروفة؟»، فيجيبني: «اجمع بينهما». ويوضّح أنّ ثمّة قصائد قديمة دخلت في صميم التراث الحسينيّ، وأصبحت جزءاً من الوجدان الشعبيّ والشعائريّ، والناس يتأثّرون بها ويتفاعلون معها بشكل طبيعيّ. لكنّه كان يرى أيضاً أنّه يمكننا أن نمرّر عدداً من القصائد الحديثة، شريطة أن تكون ملتزمة بالمضمون والروح الحقيقيّة للعزاء الحسينيّ.
وكان سماحة السيّد (رضوان الله عليه) لا يكتفي بالتوجيهات العامّة، بل يدخل في تفاصيل المصرع الحسينيّ، خصوصاً في يوم العاشر، ويُبدي رأيه فيها بوعي عميق. كانت ثمّة بعض الأمور التي يتحفّظ على ذكرها، ليس من باب الخوف من استفزاز الآخرين، بل بسبب قراءته الدقيقة لمجريات المعركة ورؤيته التاريخيّة والفقهيّة لها.
ومن ذلك مثلاً ذكر عدد جيش عمر بن سعد، الذي يُقال إنّه بلغ 300 ألف، فقال لي سماحته: «لا داعي لأن تذكر هذا العدد، لأنّه يوجد أكثر من رأي عند المؤرّخين حول عدد جيشه». وأيضاً بالنسبة إلى عدد أنصار الإمام الحسين عليه السلام، أشار إلى أنّ ثمّة أقوالاً تشير إلى أنّهم كانوا 72، أو 114، أو حتّى أكثر من ذلك. لكنّ سماحته طلب منّا أن نتبع الرواية الأكثر اعتماداً وتواتراً، وهي ما نسبته إلى الإمام زين العابدين عليه السلام، والتي تقول إنّ عددهم كان 72 شخصاً.
وكان للسيد (رضوان الله عليه) اهتمامٌ خاصٌّ بجوِّ المجلس أثناء قراءة مصرع الإمام الحسين عليه السلام، خاصّةً في ليلة العاشر. ففي آخر عاشوراء العام الماضي (2024م)، تحدّث معي بعض الإخوة المقرّبين من سماحته، وقالوا لي إنّ سماحته يطلب منّي أن ألتقيه في باحة عاشوراء تلك الليلة، ليوجّهني بأن أحرص خلال القراءة على الحفاظ على الجوّ الوجدانيّ الحزين، وأن لا يُفقد هذا الجو بسبب ذكر بعض التفاصيل التي قد تُقلّل من حرارة الحزن والبكاء. كانت ملاحظته الدقيقة هي: «لا تسمح بدخول أيّ شيء من البرودة أو الفتور إلى المشهد أثناء عرض معركة الإمام الحسين عليه السلام، بل اجعل المشاعر متأجّجة حتّى لحظة الشهادة الأخيرة».
إلى أي درجة كان يتابع سماحته مجريات قراءة المجلس الحسينيّ خلال مرحلة حضوره المباشر وغير المباشر؟
ثمّة حادثة يمكن أن توضّح دقّة متابعة سماحته، وهي في الملاحظات التي كان يبديها أثناء المجلس، كانت الليلة الأولى من عاشوراء وكُنت أشرع بختام المجلس، فعرّجت على مسألة خلافيّة، فأرسل لي سماحة السيّد ورقة، كتب فيها: انتبه عند هذا المقطع، وأمضاها بنصر الله. ومرة أخرى أرسل لي ملاحظة أن أختصر مقطعاً معيّناً. ما زلت أحتفظ بهاتين الورقتين حتّى الآن.
وحادثة أُخرى يوم العاشر، وأنا أقرأ تفاعلت بشدّة وانهرت بالبكاء، عندها كان السيّد حاضراً. وكان ذلك قبل عام 2000م، وكان الشهيد السيّد هاشم حاضراً أيضاً، فأشار السيّد حسن بشيء له، فاقترب مني السيّد هاشم وقال لي: هل أصابك شيء؟ فقلت: لا، صرتُ أفضل. وكان الإخوة قد تداركوا الموقف وأوقفوا بثّ الصوت، عندما جاء السيد هاشم وكلّمني، عُدت وتمالكت نفسي. وعندما لم يكن السيّد المفدى يحضر شخصياً كان يوكل أحد الإخوة في الأمانة العامّة ليوصل إليّ ملاحظاته.
* ما التوصيات الخاصّة التي كان سماحته يشدّد عليها في لقاءاته مع القرّاء لإحياء عاشوراء بشكل صحيح؟
ثمّة مجموعة من التوصيات الخاصّة، مثل:
1. ضرورة إظهار الحزن الحقيقيّ وليس المصطنع.
2. ضرورة أن يعيد الإحياء قلوب الناس إلى أصالة الدين وقيمه الحقيقيّة، ويوجّههم نحو التديّن الواعي والالتزام الصادق.
3. استنهاض النّاس من خلال جهاد التبيين والخطاب الثوريّ الذي يجعلهم مع المظلومين ضدّ الظالمين.
4. أن تكون الشعائر متوافقة مع الأحكام الشّرعيّة.
5. الحفاظ على قدسيّة أهل البيت عليهم السلام، وعدم إيراد أيّ محتوى قد يخدش هذه القداسة.
6. الابتعاد عن كلّ ما يسبّب توهين الدين أو المذهب، ليس فقط من خلال المساس بقدسيّة الذكرى أو الشخصيّات الكربلائيّة، وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام، بل يجب أن نكون حريصين في مجمل خطابنا على تقديم ديننا ومذهبنا بطريقة تعزّز الاحترام وتُبعد أيّ سببٍ للنفور أو التشويش.
7. الابتعاد عن الألحان والكلمات التي لا تحمل روح العزاء الحسينيّ الحقيقيّ منها على سبيل المثال، الألحان التي تنتهي بـ(إس... إس...).
8. كما شدّد سماحته على الاعتماد على المصادر المعتبرة في السيرة والتاريخ الحسينيّ، ومنها الكتاب الجديد للشيخ الريشهري.
* كان سماحة السيّد يؤكّد أهميّة حضور الناس المجلس الحسنيّ مباشرةً وعدم الاكتفاء بالاستماع إلى التلفاز أو التسجيل. ما هو أثر هذا الحضور؟
نعم أكدّ سماحة السيّد ذلك وأيّده كثيراً؛ لأنّ أئمتنا عليهم السلام كانوا يؤكّدون أهميّة الحضور المباشر في مجالس الإمام الحسين عليه السلام ويذكرون بعض المصائب، وقد طلب الإمام الصادق مثلاً من جعفر بن عفّان (وهو أحد المنشدين): «بلغني أنّك تُنشد شعراً في الحسين عليه السلام، فأنشده، فبكى الإمام عليه السلام حتّى جرت دموعه على خديه، ثمّ قال: يا جعفر لقد شهدت ملائكة الله المقربون، هاهنا يسمعون قولك في الحسين عليه السلام ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر، ولقد أوجب الله لك يا جعفر في ساعتك الجنّة بأسرها وغفر لك»(1).
وكان الإمام الصادق عليه السلام ينصب ستراً بينه وبين عياله، وكانت ترتفع بعض الأصوات بالبكاء تأثراً بمصائب سيد الشهداء عليه السلام، أيضاً بعض المنشدين كانوا يأتون وينشدون للإمام عليه السلام بطريقة إلقاء الشعر مثلاً: (أفاطم لو خِلت الحسين مجدّلاً ...) يلقيه إلقاءً، فيقول الإمام له: لا أنشدنيه كما تنشده بالرقّة على قبره، يقول الراوي أي بصوت حزين حتى يتفاعل الناس وتتأثرون، فالمطلوب الحضور لأنّ في الحضور المباشر تفاعلاً أكبر، وفيه تعزية مباشرة بين المؤمنين، وكذلك فيه رسالة إلى العالم كلّه تتأكد بها ذكرى عاشوراء واستمراريّتها ومؤثّريتها. وبهذا تكون بركات الحضور المباشر جلية وعظيمة جدّاً، بالتالي؛ تتحقق هذه البركات وهذه المثوبات العظيمة من ناحية البكاء والتفاعل العاطفي، ومن ناحية الاستفادة الثقافيّة والمعنويّة والسلوكيّة والحماسيّة والجهاديّة التي يتلقاها الحاضر والمشارك في مجلس الإمام الحسين عليه السلام.
* كيف ستكون عاشوراء هذا العام في غياب سماحة السيّد (رضوان الله عليه)؟ وهل ستُستحضر خطاباته وتوجيهاته في إحياء المناسبة؟
السيّد الشهيد رحل جسداً لكنّه بقي حيّاً في قلوبنا وخطابنا. ستكون غصّتنا كبيرة؛ لأنّنا لن نراه بيننا، ولن يصدح صوته في المجالس كما كان كلّ عام، لكنّ كلماته وتوجيهاته وخطاباته ستبقى حاضرة بيننا، تُلهمنا وتحيي فينا الروح الثوريّة والإيمانيّة التي كان يحملها.
كان سماحة السيّد (رضوان الله عليه) يبدأ خطابه دائماً بزيارة الإمام الحسين عليه السلام، ويختتمه بها، ليجعل من الزيارة بوصلةً للكلمة والموقف معاً. ولذلك، سنحافظ إن شاء الله على حضوره الروحيّ والتعبويّ في هذه الأيّام المباركة، من خلال إعادة نشر كلماته، والالتزام بتوجيهاتِه التي لا تزال ترسم لنا طريقنا.
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 47، ص 314.