لطيفة الحسيني
لا يبدو أنّ الجدل حول عمل المحجّبات في الإعلام سينتهي إلى غير رجعة. في لبنان تحديداً وليس في دولة غربيّة، يُثار الموضوع مجدّداً نتيجة موقف إحدى المؤسّسات الإعلاميّة التي أقالت مراسلة بسبب ارتدائها الحجاب. أثارت هذه القضيّة جدلاً واسعاً حول ما إذا كان هذا القرار نابعاً من اعتبارات قانونيّة أم أنّه يعكس تمييزاً واضحاً ضدّ المحجّبات.
المشكلة أنّ التبرير الحاضر دائماً هو أن لا مكان للشعائر أو الطقوس الدينيّة في الإعلام. لكن هل الحجاب مجرّد شعيرة؟ وهل يمكن فصله عن الهويّة والقيم الإنسانيّة؟
* ممارسات خاطئة لا قانون خاطئ
في ظلّ هذه القضيّة المثارة، لا بدّ من التوضيح القانونيّ لما يجري. يؤكّد رئيس لجنة الإعلام والاتّصالات النائب الدكتور إبراهيم الموسويّ أنّ «ما تُصدره بعض الإدارات الإعلاميّة من قرارات بحرمان محجّبات من الوظائف ليس سوى تصرّفات تعسّفيّة لناحية فهم القانون ونصوصه، إذ إنّ الموضوع يرتبط بالممارسة والتطبيق ولا أصل قانونيّ له». يضيف: «هذا يعني أنّ ثمّة حاجة ملحّة إلى تصحيح هذه الممارسة الخاطئة؛ فالمحجّبة هي مواطنة يجب أن لا يُنتقص حقّها بأيّ حال من الأحوال».
أمّا بالنسبة إلى الجانب القانونيّ، فيقول الموسويّ: «ورد في مقدّمة الدستور - الفقرة ي، أنّه لا قيمة أو شرعيّة لأيّ قانون يُناقض ميثاق العيش المشترك. فالحقوق الدستوريّة الأساسيّة للمواطنين، كالعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، مكفولة في الدستور وليس في القانون فقط. وعليه، ثمّة نوع من الخلط المُجحف جدّاً بين ممارسات بعض إدارات الدولة والحقوق المكفولة في الدستور».
* الحجاب فريضة دينيّة واجبة
ما رأي الدكتور الموسويّ بما يقوله بعضهم من أنّ ارتداء الحجاب يعدّ نوعاً من الشعائر؟ يجيب: «هذه الفكرة خاطئة، فالحجاب عند المسلمين جميعاً فرض واجب، ولا يجب تصويره على أنّه حقّ تستطيع الفتاة أو السيّدة التنازل عنه. وبما أنّه ثمّة فرقاً بين الحقّ والواجب، فالنقاش لم يعد حول شعيرة دينيّة، بل حول واجب على كلّ مسلمة أن تلتزم به، وإذا ما خالفته، فهي بذلك تعصي أمر الله؛ ولهذا، تتمسّك كلّ محجّبة بحجابها».
* محجّبات في فضائيّات عالميّة
هل يمكن القول إنّ الإعلام العالميّ أكثر انفتاحاً على المحجّبات مقارنة بالإعلام المحليّ؟ يشير الدكتور الموسويّ إلى أنّه ثمّة مجموعة من الموظّفات المحجّبات في التلفزيون الكنديّ، من بينهنّ مذيعات، وكذلك الأمر في شبكة CNN الإخباريّة، ويتساءل: «فلماذا تعارض بعض القنوات التلفزيونيّة اللبنانيّة هذا الأمر؟». يتابع قوله: «المحجّبة مكوّن أساسيّ من مكوّنات البلد، وبينهنّ عالِمات وصاحبات طاقات، والتعاطي معهنّ بهذا الشكل يعني الحدّ من قدراتهنّ».
* في طريق المعالجة
ما الخطوات العمليّة التي يمكن اتّخاذها لمعالجة هذه القضيّة؟ يجيب الدكتور الموسويّ أنّ «ما تتعرّض له المحجبّات في بعض وسائل الإعلام سيكون موضع متابعة حثيثة في لجنة الإعلام والاتّصالات».
ويتعهّد بمُلاحقة هذا الملفّ الذي يطال عشرات الآلاف من المحجّبات، قائلاً: «هذا حقّ لهنّ علينا جميعاً، ليس من منطلق إسلاميّ أو طائفيّ، بل لأنّه من واجبنا أن نسنّ القوانين والتشريعات التي تكفل أن تكون المحجّبات على قدر من المساواة مع كلّ المواطنات اللبنانيّات بما يكفله الدستور».
* تسليع المرأة
ننتقل الآن إلى تجارب بعض الإعلاميّات المحجّبات للوقوف عند موقفهنّ من هذه القضيّة.
في إشارة إلى الأبعاد الاجتماعيّة والثقافيّة لهذه القضيّة، ترى الإعلاميّة الدكتورة آسيا الحسينيّ من خلال تجربتها في العمل في أكثر من قناة تلفزيونيّة، أنّ الحرب على الحجاب مستمرّة بسبب خشية إدارات بعض وسائل الإعلام من سيطرة المحجّبات على هذا المجال بسبب الكفاءات العالية التي تمتلكها العديد منهنّ. فالحرب هذه هي على قيم الستر والإنسانيّة».
أمّا سبب تصرّف إدارات بعض وسائل الإعلام فتُرجعه د. الحسينيّ إلى النظرة الدونيّة المتجذّرة لدى بعض هذه المؤسّسات، التي ترفض توظيف الإعلاميّات المحجّبات، ذلك أنّ القائمين عليها يريدون المحافظة على التفوّق الوهميّ عبر معايير التبرّج، والسفور، والاهتمام بالمظهر الخارجيّ. فضلاً عن أنّ ثمّة هدفاً تجاريّاً يقف وراء ذلك، يكمن في تسليع المرأة وإظهارها في هذا الشكل. لذا، إنّ توظيف المحجّبات يحول دون تحقيقهم هذا الهدف»!
تضيف د. الحسينيّ: «كلّ الديانات السماويّة تؤمن بالحجاب؛ فالقضيّة تتخطّى الهويّة الطائفيّة. والحجاب، عندئذ، لا يعكس هويّة دينيّة، بقدر ما يتعلّق بالمبادئ والأفكار».
كيف تحفظ المحجبّة قدسيّة حجابها في هذه الحال؟ تجيب د. الحسينيّ إلى أنّها ليست مضطرّة للعمل في مكان لا يحترم مُعتقدها وحجابها. وتشير بحكم تجربتها في الإعلام إلى أنّها لم تتعامل يوماً مع مؤسّسة لا تقبل توظيف محجّبات، وتُضيف: «يضمّ ميدان العمل الإعلاميّ مُختلف المكوّنات والأطياف والفئات، ولهذا، لا يوجد أيّ مانع أو عائق من أن أؤدّي دوري الصحافيّ، وكمراسلة أحياناً. أمّا التحدّي الأساسيّ لكلّ إعلاميّة محجّبة، فيكمن في بذل جهود مضاعفة لتثبت جدارتها في العمل، ولتؤكّد أنّه لا علاقة بين أدائها المهنيّ ومظهرها الخارجيّ، وهذا يتطلّب إرادة قويّة».
* الحجاب ليس عائقاً
للوقوف أكثر عند تجربة الإعلاميّات المحجّبات، قابلنا المراسلة الحربيّة في قناة الميادين فاطمة فتوني، التي أعربت عن رفضها تأطير عمل المحجّبة في الإعلام، وتؤكّد أنّها لا تُعير اهتماماً لكلّ التعليقات التي وُجّهت إليها بسبب عملها كمراسلة وهي محجّبة، ولا سيّما خلال تغطيتها العدوان الصهيونيّ على لبنان، وتقول: «لقد أدركت بالتجربة الميدانيّة أنّ الحجاب لم يكن يوماً عائقاً أمام ممارسة عملي الصحافيّ، بل التحدّي الوحيد الذي وضعته نُصب عينيّ هو نقل الحقيقة في وجه الاعتداءات الإسرائيليّة».
برأي فتوني: «من لا يستطيع التفريق بين مظهر المرأة ومضمونها، يحتاج إلى علاج معرفيّ وثقافيّ، وعليه أن يقرأ جيّداً من صنع التاريخ؛ المرأة وحدها من تصنع التاريخ والمجتمع وتربّي الأجيال».
أمّا عن موقفها من الجدال حول قضيّة الحجاب، فتقول: «إذا كانت المرأة محجّبة أم لم تكن، يبقى لها دور فاعل، وخصوصاً في ميدان الحرب وفي نقل الوقائع في غزّة ولبنان». وتخلص إلى أنّ «من لا يستطيع أن يفرّق بين الذكاء والمظهر الخارجيّ، فهذه مشكلته، لأنّ الفتاة تثبت قدراتها بوعيها وحضورها وعقلها وليس بمظهرها. أمّا أن يستمرّ التمييز في هذا المجال فهو أمر مُعيب ومرفوض. فالفتاة المحجّبة تعكس هويّة ثقافيّة وجوهراً رساليّاً يجتاز البُعد الطائفيّ أو المذهبيّ أو الدينيّ».
في ختام هذا المقال، يبقى أن نطرح تساؤلات مهمّة تحتاج إلى معالجة: هل يمكن للإعلام أن يكون فعلاً مرآة حقيقيّة للمجتمع إذا استمرّ في إقصاء المحجّبات؟ وإذا كان يدّعي التعبير عن التنوّع، ألا يسهم في خسارة كفاءات كبيرة بهذا الإقصاء؟