السيد عليّ مرتضى الهبش
يقول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 215).
طرح الإسلام قضيّة التكافل والعطاء ليبني حضارة لا طمع فيها ولا جشع، ولا غنى فاحش لا يأخذ منه الفقراء والسائلون والمحرومون. وقد أراد من ذلك صناعة المجتمع المتكافل، الذي يشعر قويّه بضعيفه، وعالِمه بجاهله، وغنيّه بفقيره، وكبيره بصغيره، ليكون مجتمعاً متوازناً ومتراحماً. والتكافل الماديّ هو أحد الأوجه الكثيرة، التي بيّنت النصوص أهميّته على المستوى الدنيويّ والأخرويّ، فضلاً عن خطورة تركه والآثار المترتّبة عليه.
* أوّلاً: أهميّة التكافل
أكّدت الآيات القرآنيّة وأحاديث أهل البيت عليهم السلام أهميّة التكافل لأسباب عدّة، نذكر منها:
1. إصلاح المشاكل الأسريّة والاجتماعيّة: حدّد القرآن جزءاً من أموال المؤمنين الأغنياء للفقراء والمحرومين وعدّه حقّاً، كالخمس والزكاة، وزكاة الأبدان (زكاة الفطرة): ﴿وَفِيٓ أَموَاٰلِهِم حَقّ لِّلسَّآئِلِ وَٱلمَحرُومِ﴾ (الذاريات: 19)، وهذه نفقات واجبة على المؤمنين. وبهذا، يكون الإسلام قد أصلح الكثير من المشاكل الأسريّة والاجتماعيّة بدعوته الناس للتكافل والتعاون، وساهم في تحجيم مساحة الجريمة، والسرقة، والعنف، والتفكّك الأسريّ، وغير ذلك. فالإسلام يريدنا أن نحمي أنفسنا بأنفسنا؛ فعندما ننفق لنُعيل فقيراً معوزاً أو يتيماً انقطع حبل استقراره بفقد أبيه، أو عندما نتحمّل مسؤوليّة بعض الأرحام والجيران والأصدقاء ونعطيهم شيئاً من مالنا ليكملوا حياتهم بين أفراد المجتمع بشكلٍ طبيعيّ، كم يكون هذا العمل عاملَ استقرار لهذه النفوس المحتاجة، ويكون مدعاة للافتخار والاعتزاز في دار الدنيا والآخرة لأصحاب النفوس المعطاءة.
2. تنمية شعور الأخوّة: ليست الدعوة إلى التكافل من أجل إطلاق الشعارات الخالية من أيّ تطبيق عمليّ، بل يريد الله تعالى من ذلك تنمية شعور الأخوّة بين المؤمنين لكي يصون جمعهم من كلّ الآفات التي قد تتسلّل إليهم. ومن جملة الأمور العمليّة للأخوّة مسألة تكافلهم وتعاضدهم، والشعور ببعضهم بعضاً عندما تقترب آفة الفقر والعوز من أحدهم.
3. القيام بأهمّ العبادات: عند تفحّص النصوص التي وردتنا عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، نعثر على مصاديق متعدّدة لعنوان التكافل، ونجد الترغيب العجيب في قضاء حوائج الآخرين من المعوزين، بحيث ورد في بعضها أنّها إحدى أهمّ العبادات كما يُنقل عن الإمام الباقر عليه السلام: «لأن أعول أهل بيت من المسلمين: أسُدُّ جوعتهم، وأكسو عورتهم، فأكفّ وجوههم عن الناس، أحبُّ إليّ من أن أحجّ حجّة، وحجّة وحجّة، حتّى بلغ عشراً، ومثلها ومثلها حتّى بلغ السبعين»(1).
قال المشمعلّ الأسدي: خرجت ذات سنة حاجّاً، فانصرفت إلى أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام، فقال: «من أين بك يا مشمعلّ؟ فقلت: جُعلت فداك، كنت حاجّاً، فقال عليه السلام: أوَتدري ما للحاجّ من الثواب؟ فقلت: ما أدري حتّى تعلّمني، فقال عليه السلام: إنّ العبد إذا طاف بهذا البيت أسبوعاً وصلّى ركعتيه وسعى بين الصفا والمروة، كتب الله له ستّة آلاف حسنة، وحطّ عنه ستّة آلاف سيّئة، ورفع له ستّة آلاف درجة، وقضى له ستّة آلاف حاجة للدنيا كذا، وادّخر له للآخرة كذا، فقلت له: جُعلت فداك، إنّ هذا لكثير، فقال عليه السلام: أفلا أخبرك بما هو أكثر من ذلك؟ قلت: بلى، فقال عليه السلام: لقضاء حاجة امرئ مؤمن أفضل من حجّة وحجّة وحجّة، حتّى عدّ عشر حجج»(2).
4. الأمن يوم القيامة: يسعى المؤمن طيلة عمره لينال ثواب الآخرة والقرب من الله تعالى، ويجهد في عمله ليكون آمناً يوم القيامة من الفزع الأكبر. ولتحصيل هذا الأمن، ذكرت بعض الروايات جماعة وصفتهم بـ«الآمنون يوم القيامة»: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 88-89).
قال الإمام الكاظم عليه السلام: «إنّ لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة»(3).
5. تفريج الكربات: الإنسان معرّض في دار الدنيا للامتحانات والبلاءات على مستوى جسده، أو ماله، أو فقده لعزيز، وغير ذلك. وهو بطبعه لا يحبّ النقص ولا الابتلاءات، ويميل دائماً إلى الاستقرار والسعادة والدعة، ويسعى ليدفع عنه وعن أحبابه كلّ أنواع الكُرُبات. والدين قدّم له بعض الوسائل التي تنجيه وتكشف عنه البلوى، فقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام: «مَنْ نَفَّسَ كُرْبَةَ مُؤْمِنٍ، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرَبَ الدُّنْيَا والْآخِرَةِ. ومَنْ أَحْسَنَ، أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(4).
6. الدخول في باب «المعروف»: يدعونا الإمام الصادق عليه السلام إلى التنافس في خدمة الناس وقضاء حوائج المحتاجين، وأن تكون لنا الغلبة في المعروف: «تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله، فإنّ للجنّة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلّا من اصطنع المعروف في الحياة الدُّنيا»(5). ما أعظم المشهد يوم القيامة! عندما ينادي ملائكة الجنّة الموكلين بهذا الباب: يا فلان، هذا باب دخولك إلى الجنّة بسبب فعلك للمعروف مع الناس وقضاء حوائجهم، اُدخل الجنّة يا من كنت تمشي لا لنفسك بل لأجل قضاء حاجة أخيك المضطرّ الملهوف!
7. نيل دعاء ملكَين واستغفارهما: يكشف الإمام الصادق عليه السلام عن أنّ ثمّة ملكَين يرافقان صانع المعروف خلال مشيه في حاجة أخيه، ويستغفران له ويدعوان له بقضاء حاجته. كم هو مشهد عظيم وأنت تمشي، وعن يمينك ملك وعن شمالك ملك آخر، عملهما الاستغفار لك والدعاء بقضاء حاجتك! هذا أمر يستحقّ التأمّل، وعلينا أن لا نبخل على أنفسنا في الحصول على هذا الوسام.
يقول عليه السلام: «فإنّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل الله به ملكَين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته»(6).
8. قبول الأعمال: يدعو المسلم دائماً أن يُختم له بالخير؛ لأنّ سؤال المصير والخاتمة حاضر في حياته بشكل دائم. ولهذا، يكشف الإمام الكاظم عليه السلام طريقاً لو سلكناه لكانت خاتمتنا على خير، وهذا الطريق هو قضاء حوائج الآخرين والإحسان إليهم مع المقدرة على ذلك. ويربط الإمام عليه السلام قبول الأعمال بقضيّة قضاء الحوائج والإحسان، ثمّ يأمرنا بالحنان على إخواننا وأن نرحمهم، عند ذلك نكون ممّن يلتحق بنهج أهل البيت عليهم السلام وطريقهم.
قال الإمام الكاظم عليه السلام: «إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم، وإلّا لم يقبل منكم عمل، حنّوا على إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا»(7).
* ثانياً: خطورة ترك التكافل
حذّرت الآيات والروايات بشكلٍ مخيف من الاستخفاف بقضاء الحوائج وتركها، ومن عدم إغاثة الملهوف والمضطرّ، لأسباب كثيرة نذكر منها:
1. التهلكة: يبيّن الله تعالى أنّ عدم الإنفاق يؤدّي إلى التهلكة، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾ (البقرة: 195).
2. الحرمان من نظرة الله: عن مولانا الصادق عليه السلام: «أيُّما رجل مسلم أتاه رجل مسلم في حاجة وهو يقدر على قضائها فمنعه إيّاها، عيّره اللَّه يوم القيامة تعييراً شديداً وقال له: أتاك أخوك في حاجة قد جعلتُ قضاءها في يديك، فمنعتَه إيّاها زهداً منك في ثوابها. وعزّتي لا أنظر إليك في حاجة معذّباً كنت أو مغفوراً لك»(8).
إنّ التأمّل في هذا الموقف وهذا النداء الذي يكشف عنه الإمام الصادق عليه السلام، يجعل فرائصنا ترتعد، ويدعونا بقوّة إلى التعامل مع قضاء حوائج الناس بشكلٍ مختلف، وأن نكون على درجة عالية من الدقّة في خدمة الناس وتقديم المعونة لهم، فيوم القيامة حدث لا نظير له أبداً، وهو اليوم الذي يبعث الله فيه من في القبور ويحشر الناس للحساب في صعيد واحد، فيتصبّب العرق منهم، وتضوج الأرواح، ويبحث كلّ واحد عن مصيره تاركاً كلّ شيء.
3. الحرمان من رحمة الله: يحدّثنا مولانا الصادق عليه السلام في رواية أخرى عن لعنة تلاحق المتخلّف عن قضاء حاجة أخيه مع المقدرة على ذلك، من قبيل أن يقول له: أنا الآن مشغول ولا أقدر على لقائك أو قضاء حاجتك، أو ما شاكل من أعذار واهية، وهو على خلاف ذلك يقصد التهرّب من أخيه، وهذا منهيّ عنه في روايات أهل البيت عليهم السلام، إذ إنّه يوجب الوقوع في اللعنة الإلهيّة. وهذا ليس بالأمر الهيّن الذي يمكننا المرور عليه بسرعة دون توقّف؛ فمن تحلّ عليه لعنة الله، يخرج من ولايته سبحانه، ويصبح متخبّطاً لا وليّ له.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "من صار إلى أخيه المؤمن في حاجته أو مسلماً فحجبه، لم يزل في لعنة الله إلى أن حضرته الوفاة"(9).
* طريق الفائزين
نحن أمام خيارين: إمّا أن نختار طريق الآمنين يوم القيامة، والمحافظين على تماسك مجتمعهم في الدنيا من الانهيار، وإمّا طريق الملعونين حتّى لحظة الوفاة، فنساعد بذلك على تفكّك المجتمع وخرابه.
إنّ تاريخ أئمّتنا عليهم السلام يشهد كم كانت مسألة قضاء حوائج الناس حاضرة عندهم، وبشكل حسّاس لا تهاون فيه أبداً. وإمامنا زين العابدين عليه السلام مصداق بارز في خدمة عيال الله تعالى وعباده. هؤلاء من يجب أن نقتدي بهم في كلّ حياتنا لنكون من الفائزين معهم يوم القيامة.
(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 195.
(2) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 295.
(3) الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 197.
(4) نزهة الناظر وتنبيه الخواطر، الحلواني، ص 82.
(5) الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 195.
(6) المصدر نفسه.
(7) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 75، ص 379.
(8) ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج 1، ص 702.
(9) المصدر نفسه، ص 703.