تحقيق: كوثر حيدر
ربما كان أقل ما يقال عن مواجهات الحرب الأخيرة إنّها ملحمة بطوليّة سطّر فيها المجاهدون عظيم التضحيات، وأظهر فيها عوائل الشهداء أعظم المواقف المكلّلة بكثير من الصمود والتضحية والإباء.
بل سطروا حكاية نصر بصمودهم وصبرهم وإيثارهم، إلى جانب صمود أبنائهم الأسطوري في ميدان الجهاد.
عن تلك القلوب والجباه الشامخة، نطل في هذا التحقيق.
* "عد إليّ"
تقود رُفاة الجسد المشظّى بفؤاد الأمّ المجروح إلى حيث الأوصال تنام على ساحة العشق الإلهيّ. وهذا ما حصل مع والدة الشّهيد ساجد مصطفى شحادة (جواد حمزة)، مواليد عام 1993م، من بلدة شمسطار البقاعيّة. بعد اشتداد شرارة الحرب على الوطن، التحق ساجد في صفوف الالتحام المباشر ضدّ الأعداء، في حين بحثت العائلة لها عن مكان لتأوي إليه. قبل عشرة أيّام من إعلان وقف إطلاق النّار، رأت أخت الشّهيد في منامها أخاها ساجداً مع رفاقه في سيّارة يحملون أعلام حزب الله على وقع أناشيد النّصر. ذهبت إليه، واحتضنته، وهي التّي كان قد أضناها الشّوق إلى لقائه. تقول آية: "إنّ صعوبة الحرب وشدّة غطرسة الأعداء لم تثنِهم عن يقين النّصر الآتي، وصوابيّة المعركة، وأحقيّة الخيارات الّتي اتّخذتها القيادة في الميدان".
تلقّى الأهل خبر التحاق ساجد: بركب الشهداء في وقت لم يكن التّنقّل سهلاً في فترة الحرب. كان قلب الأمّ يغلي طيلة الطّريق من مكان النّزوح وصولاً إلى مكان اجتماع العائلة، وهي تسأل عن ساجد: "هل هناك اتّصال؟ هل علم عنه أحد خبراً ما؟"،حتّى كانت لحظة الوصول إلى المكان،وهي الّتي وجدته بعد نحو شهرين من فقدان أثره، عندما لم يجدوا منه شيئاً سوى محفظة وجزءاً من العتاد، فتوجّهت بقلب صادق إلى أمّ الشّهداء فاطمة عليها السلام لإعانتها في البحث عن حبيبها، فكان لها ما طلبت.
كان ينتظر قدومها تحت شجرة خضراء مزهرة. شيّعته، وزفّته إلى منزله الجديد، صابرة محتسبة، وهي تنشد له أبيات اللّقاء: "لي حقّ عليك يا ولدي. لي حقّ على جسدك الذي حملته، وسهرت عليه أيّاماً وليالي. أغار من التّراب لأنّي أحقّ منه بأن أحضنك. عُد يا ولدي إنّي أنتظرك".
* "خذ حتّى ترضى"
مجدّداً، تطرق الشّهادة باب عائلة الاستشهاديّ أحمد قصير، فاتح عهد الاستشهاديّين. فبعد باع طويل من الجهاد في ساحات الحقّ والجهاد، وشهادة أخويه موسى وربيع، التحق به أخواه محمّد وحسن.
في خضمّ الحرب، علم أهل الشهيد نبأ استشهاد الحاج محمّد (ماجد) من خلال الأنباء العاجلة على شاشات التّلفزة، ليتبعه بعد يوم واحد خبر شهادة الحاج حسن (أبو زينب)، وعلى الرّغم من ألم الفراق، يقف الوالد الذي قدّم اليوم خمسة من أبنائه شهداء كجبل شامخ في محضر الشّهادة مستبشراً، شاخصاً بوجهه نحو السّماء، حامداً الله على حُسن العطايا، مردّداً: "خذ يا ربّ حتّى ترضى". ولم يرضَ بأن يسمع باكياً بجانبه مخاطباً كلّ من يبكي: "الشهادة نعمة، هل يبكي عاقلٌ على نعمة أفاضها الله عليه؟".
لا تقف تضحيات العائلة عند تقديم الشهداء فحسب، وإنّما في تقديم المساعدات للنازحين أيضاً. وإنّما في تقديم المساعدات للنّازحين أيضاً، في المناطق التي نزحوا إليها في الحرب، ولا تزال الجهود مستمرّة حتّى الآن، تقول ناريمان قصير: "صحيح أنّنا قدّمنا أحبابنا في جبهات القتال، لكنّ ثمّة باب آخر فتحه الله لنا للجهاد نحن النساء من خلال المشاركة في العطاء والتكافل وقضاء حوائج الناس خاصّة في زمن الحرب والشدّة".
* ما أسرع الوصال!
وإلى معين عليّ الأكبر، تأخذنا رحلة العشق هذه إلى غروب وجهٍ فتيّ عن سماء أبيه الّذي ابيضّ شعره على حلم القتل في سبيل الله، فتأخذه العبرة، ويلتحق بَهاء الشّيب بصفاء الشّباب. وما بين هاني عزّ الدّين، ابن الـ 23 ربيعاً، وأبيه القائد الجهاديّ حسين هاني عزّ الدّين أسبوعان من الشّوق. تقول أمّ هاني الحاجة ندى حيدورة إنّ المهندس هانياً استشهد قبل يومين من عقد قرانه لتحتسبه شهيداً، فيما ظلّ أبوه يرنو إليه ويغبطه على سرعة الوصول، وهو الّذي مسّه الشّوق الكبير إلى بكره كأنّما يقول له: "يا عضدي وذخري وصاحبي وطفلي وشبابي، وأولى كلمات الأبوّة الّتي عرفت. كيف لك أن تمضي من دوني؟".
تعيش العائلة التّطبيق العمليّ لمدرسة كربلاء، فمنذ بداية الحرب والأمّ تهيّئ نفسها للأنباء الصّعبة بنفس مطمئنّة وثبات على آثار من مضوا. تقول: "إنّ الباقين من أبنائي على نهج أبيهم وأخيهم أكثر من أيّ وقت سابق. فهاني ليس طالب الشّهادة فقط، بل هو طالب العلم والعمل والسّعي على أكمل وجه، ونموذجاً يُحتذى به في ميدان الدّنيا والأخرة".
* "فزنا وربّ الكعبة"
العجيب في عوائل الشّهداء أنّ الدّم الّذي يسقط مرّة، يتجدّد. فلا تنكفئ العائلة عن الجهاد والتّضحية، ولا تنسحب من الامتحانات الإلهيّة الكبرى. فالشّهيد حسن حيدر، ابن بلدة أنصاريّة الّذي استشهد قبل عقد، دعا إليه إخوته وصهره، الشّهداء حسين ومحمود حيدر، والحاجّ أحمد دمج، حتّى بات معظم أفراد العائلة شهداء.
وعندما تنظر إلى الأمّ، تتبادر إلى ذهنك تساؤلات كثيرة: ما سرّها؟ أيّ سكينة يُنزلها الله على قلوب من اشترى حبيباً منهم؟ أيّ تجارة رابحة تلك الّتي تقدّم فيها المرأة زوجها أو أخاها أو أباها فيما تقف محتسبة صابرة ثابتة؟
يقف أفراد هذا البيت أمام سيل التّضحيات بعبارة: "فزت وربّ الكعبة"! وترفع الأمّ يديها شكراً لله على ما أعطى وأخذ، وتقول: "إنّ كلّ هذه التّضحيات الجسام الّتي لحقت بمحور الحقّ، هي دَين في أعناقنا جميعاً لإكمال المسير على أكمل وجه، ولحفظ أمانة هؤلاء الشّهداء في العيش الكريم والعزّة وإعلاء كلمة الحقّ".
* على خُطى أبيه
إلى الرّعيل الأوّل، رعيل الثّمانينيّات والطّلقات الأولى، عندما يمضي أبو حسن عمّار ويلحق به فتاه محمّد حسن (19 عاماً). هي قصّة أخرى من قصص أولي البأس، أولئك الذين حفروا بأناملهم تضحياتهم في وجه الاحتلال القديم، وأخرجوا ببنادقهم أطماع الاحتلال الجديد. لم يكن نبأ استشهاد القائد الجهاديّ علي نايف أيّوب (أبو حسن عمّار) غريباً، فكلّ من يعرف الحاج يدرك أنّه شهيد حيّ، ومقاوم منذ بداية انطلاق العمل الجهاديّ في البلاد، وبقي كذلك حتّى استشهد مع حبيبه وقائده شهيدنا الأسمى سماحة السّيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه).
عندما علم محمّد حسن بشهادة والده، رفض ترك جبهة القتال، إلى أن التحق بأبيه بعد نحو ثلاثة أسابيع.
وفي حين يراهن العالم على انكسار هذه البيئة، تقف الأمّ والزّوجة وقفة عزّ أمام هذه الكرامة الإلهيّة، فلا الفقد يثني أهل الحقّ عن التّضحية، ولا التّحدّيات ترهب من كان في قلبه ذكر دائم لأهل الشّهادة والحياة.
* جراح فشهادة
ننتقل إلى جرحى تفجيرات "البايجرز" مع الجريح علي محمّد بزي (31 عاماً)، وحيد أبويه وأب لطفلين. يشكر الله أن نظر إليه نظرة كريمة وشمله برحمته عندما تمادى العدوّ الصّهيونيّ في إرهابه في 17 و18 أيلول/ سبتمبر 2024م. كانت الضّاحية الجنوبيّة ومعها الجنوب والبقاع تتلقى عيون أبهى الشّباب وأطرافهم ودماءهم. لقد أصيب بصر عليّ دون بصيرته، وأطرافه دون بأسه، وهو الذي طلب من أمّه أن توقّع على ورقة موافقتها على السماح له بالجهاد، في حال كان ثمّة حاجة له، لم تندم الوالدة على قرارها ذاك، بل تقول: "لو كان لديّ المزيد من الأبناء، لما بخلتُ بهم في سبيل الله".
كلٌّ عبّر بطريقته، وكلٌّ أجمع على صوابيّة الجهاد والتضحية، فلولا الشهداء لما كان ثمّة عزّ ونصر وافتخار. هم عوائل الشهداء والجرحى، الذين قدّموا الأرواح والأنفس والبيوت والأموال والعيون والأطراف، جنباً إلى جنب جمهور المقاومة، التي لم يبخل أفرادها يوماً بتقديم التضحيات! هؤلاء كلّهم يقفون على ركام البيوت والأرزاق ويقولون لسماحة السّيّد (رضوان الله عليه):
"أنفسنا دون أنفسكم، وأرواحنا دون أرواحكم، فداك المال يا أبا هادي. يا شيخ نعيم أكمل المسيرة!".