السيّد حسين أمين السيّد
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 169 – 172) صدق الله العليّ العظيم.
* إشكاليّة القتل في سبيل شيء
القتل في سبيل شيء مهمّ عند الإنسان، وهو أمرٌ حاصل في حياة الإنسانيّة ومجتمعاتها، إذ منذ وجود الإنسان نجده يَقتل ويُقتل ولأتفه الأسباب، إلّا أنّها بنظر صاحبها أمر عظيم. وتاريخ العرب حافل بالمجازر في حقّ بعضهم بعضاً بسبب الغرائز القبليّة والعشائريّة أو سعياً لسبي نساء الآخرين وأخذ خيراتهم، أو يكون لمجرد الخلاف على فرس فائزة أو ناقة ويستمرّ القتل مائة عام. والقتال والقتل في سبيل هذه الأمور التافهة كان سائداً وممدوحاً عند القوم. ومن يمت في هذا السبيل الرخيص يكن مكرّماً عندهم ومعظّماً.
نعم، عندما يصل الأمر إلى القتال والقتل في سبيل الله تعالى تجد القوم في وادٍ آخر، ويصبح هذا الموت خسارةً وضياعاً للعمر.
ولذا، نجد أنّ القتل في سبيل الله تعالى له شروط عديدة، منها:
1- الإيمان بالله تعالى: إذا كانت المسألة هي القتل في سبيل الله تعالى، فلا بد أن يكون مستوى الإيمان قد وصل إلى أعلى مراتبه، وبلغ حدّاً من اليقين الراسخ الذي لا يزلزله أي شيء، وتصبح لحظة الموت هذه فوزاً عظيماً، كما ورد عن أمير الموحّدين والعاشقين علي بن أبي طالب عليه السلام: «فزتُ وربّ الكعبة».
2- البُعد عن الدنيا: إذ إن ما يمنع الإنسان، حتى المؤمن، عن التضحية في سبيل الله تعالى تعلّقه بالدنيا وركونه إليها، إلى درجة تصبح هي المقصودة والمعبودة، فلو جاءه الإمام الحسين عليه السلام طالباً نُصرته في كربلاء كان جوابه: إن نفسي تأبى الموت، مع علمه بأن الجنة لا تكون إلّا مع الحسين عليه السلام والقتْل بين يديه.
3- مواجهة الوساوس: مَن ينخرط في خطّ الجهاد فقد فتح باباً واسعاً وحرباً ضروساً مع أبالسة الجنّ والإنس، كي يمنعوه من هذه النعمة العظيمة ويحرموه من دخول باب الجهاد الذي فتحه الله لخاصة أوليائه، ومن طرقهم باب التهويل: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ (آل عمران: 173). ولكن جواب المؤمنين هو ما تشهد به رسالة المجاهدين في تموز 2006م لسماحة الأمين العام المفدّى السيّد حسن نصر الله (حفظه اللَّه)، وباختصار كان جوابهم على مقولة القوم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.
* مواجهة المنافقين والمشركين للجهاد في سبيل الله تعالى
الآية الكريمة المذكورة في مستهلّ المقال التي تتحدث عن الشهداء، تبيّن لنا الأسلوب الذي اتّبعه المنافقون والمشركون لمواجهة اندفاع الناس للقتال في سبيل الله، وطلب القتل في سبيله، والموت قربة إليه تعالى، فقد اعتمد القوم في عملية التثبيط وتشكيك المؤمنين ما يلي:
أولاً: دعوى الموت ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا﴾: والمقصود من الموت هنا ما يعتقده القوم من انعدامٍ للميت وتحوّله إلى تراب، وبالتالي يصبح عدماً ونسياً منسياً، ولذا جاء رد الآية واضحاً وصريحاً ﴿بَلْ أَحْيَاء﴾. بنظر القرآن الكريم الشهداء هم أهل الحياة الحقيقيّة وأهل الحياة التي لا يمكن قياسها بالحياة الدنيا، فالشهداء أحياء لا أموات.
ثانياً: دعوى الحرمان: حيث ادعى القوم أن الشهيد أوقع نفسه بخسارة عظيمة وهي حرمان النعم الدنيوية والعيش مع أهله وعشيرته وقومه، فكان الجواب الإلهيّ ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، فالشهداء انتقلوا من مجاورة اللئام أمثالهم إلى مجاورة الكرام ورضوان الله تعالى، وهم يُرزقون ويأتيهم رزقهم رغداً من عند الله تعالى.
* لا خوف عليهم ولا يحزنون
ثم إنّ القرآن الكريم شرع ببيان ما للشهداء عند الله سبحانه وتعالى، والذي نشير إليه في النقاط التالية:
1- الشهداء ﴿أَحْيَاء﴾، كما بيّناه سابقاً.
2- ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ وأيضاً بيّناه سابقاً.
3- ﴿يُرْزَقُونَ﴾، وهذا الرزق الإلهيّ لا يحيط به عقل البشر وفَهمهم. صحيح أنّ الرزق كلّه من عند الله تعالى للشهداء ولغيرهم وحتّى للكفار، فكلّ مخلوق رِزقه منه تعالى إلّا أنّ رِزق الشهداء هو الرزق الخاصّ والعناية الخاصّة. والله ترك بيان نوع هذا الرزق وتفصيلاته لعدم قدرة الإنسان على استيعابه.
4- ﴿فَرِحِينَ﴾: من الواضح أنّ الرزق وإن أورَثَ فرحاً، إلّا أن هذا الفرح مجبول بالهمّ والغمّ والقلق في الدنيا، نتيجة الخوف من خسارته وفقدانه، وأمّا رزق الله وفي تلك النشأة البرزخيّة وما يعطيه الله للشهداء، فهو فرح كلّه وسرور كلّه.
5- ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾؛ إن الشهادة تجعل صاحبها من أهل البشارة. فكما أنّ الأنبياء مبشّرون ومنذرون فالشهداء يصبحون من أهل هذا المقام ومن أهل البشارة، يبشّرون أهل الجهاد ومن يسير في ركب المجاهدين -حيث يبتلى بعضهم بوساوس من الشيطان ليثنيهم عن الجهاد ويشكّكهم فيه، خصوصاً عند وقوع الشهداء بين أيديهم ووقوع الجرحى أمام ناظريهم- أنّ الطريق واضح وأنّ ما وعدنا به ربّنا حقّ، فيورث ذلك ثباتاً وعشقاً لدى المجاهد. لذا، كلّما سقط شهيد بين المجاهدين، شدّ أزرهم وقوّى عزيمتهم وعظم طلب الشهادة في نفوسهم بفضل بشارة الشهداء.
6- ﴿أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾: فمن يصل إلى هذا المقام وينال من الله الفضل العظيم، فتلك السعادة المطلقة التي لا يشوبها شيء من الخوف أو الحزن، ولا إمكانيّة لأن يخالطها شيء من ذلك.
ومن اللطيف الإشارة إلى ما ذكر في الآية التالية: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، حيث إنّ الحديث هنا ليس عن الشهداء فحسب، بل يشمل كلّ مَن ضحّى في سبيل الله ولو لم يصل إلى نيل الشهادة؛ إذ ثمّة من هم في خطّ الجهاد ولكن أصابهم قرح وبلاء. وهذا ينطبق على الإخوة الجرحى الذين يعاينون الشهادة ويعيشون لحظتها دون الدخول إلى عالمها.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم أو ممّن يُحشر معهم أو يشملهم دعاؤهم؛ حتّى تتشرّف أرواحنا بطهر معرفتهم وعظيم مقامهم، فننال بذلك شفاعتهم يوم الورود.