وائل كركي
السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر من عام 2023م لم يكن يوماً عاديّاً في التاريخ الحديث. عمليّة طوفان الأقصى التي ضخّت دماً جديداً في شرايين قضيّتنا الأساسيّة «فلسطين»، كانت أيضاً بدايةً لفصل جديد من فصول طفرة مواقع التواصل الاجتماعيّ، حيث باتت اليوم على رأس قائمة الاهتمام والاستهداف.
* إجراءات الصهاينة
قبل بدء عدوانه الانتقاميّ بحقّ أهلنا في قطاع غزّة، سارع الكيان مباشرةً إلى اتّخاذ إجراءات عبر مواقع التواصل لإحكام سيطرته على ما يُسمح بنشره من عدمه، بعد أن تحرّكت أجهزته القضائيّة لتتدارك نتيجة ما يمكن أن تؤدّيه تلك المنصّات من دور مهمّ وفعّال إذا سُمح لها بنشر ما أصابه من خيبة في ذلك اليوم التاريخيّ في السابع من أكتوبر، أو بتوثيق مشاهد القتل والدمار بعد ذلك بأيّام معدودة، بحيث مارس العدوّ حينها أبشع أنواع العدوان والبربريّة اللذين لم تشهد لهما البشريّة جمعاء من مثيل.
لهذه الغاية، أُنشئت «غرف حرب» في كلّ منصّات مواقع التواصل بهدف «تلميع صورة إسرائيل» ومراقبة كلّ محتوى قد يمسّ بها. وقد تألّفت تلك الغرف من متكلمين وعارفين بعدد كبير من لغات العالم لتستطيع مراقبة كلّ ما يُنشر، وللتصدّي لكلّ من يكتب كلمة حقّ.
* نشاط لا يخمد رغم الحظر
أشعلت عمليّة طوفان الأقصى آلاف الصفحات والحسابات لمصوّرين، وصحافيّين، ومؤثّرين، وصنّاع محتوى رقميّ، عبر مختلف المنصّات الرقميّة. وكذلك هبّ عموم الناس في مختلف دول العالم لنصرة غزّة، ولا يزال هذا الواقع سيّد الموقف حتّى يومنا هذا.
وهنا التحوّل الذي كان العدوّ متوجّساً منه منذ اللحظة الأولى لبدء العمليّة؛ إذ لم يستطع إخماد صوت الحقّ، رغم كلّ عمليّات الحظر وإقفال الحسابات وبرمجة الخوارزميّات المنحازة إليه. فمن أُقفل حسابه، بادر فوراً إلى إنشاء حساب جديد ليظلّ مرآةً تنقل الحقيقة: خبراً وصورةً. وهذا قد يمثّل نقطة تحوّل كبرى في الوعي الجمعيّ للمجتمعات العربيّة والعالميّة على حدّ سواء في المستقبل.
في حقيقة الأمر، هذا الدور لمواقع التواصل الاجتماعيّ ليس بجديد؛ فخلال فترة ما سُمّي بـ«الربيع العربيّ»، ساهمت هذه المواقع في تأجيج الشارع العربيّ، وقد نجحت فعلاً في تحريكه والتأثير فيه سواء في مصر أو تونس أو ليبيا أو سوريا، مع الاختلاف، طبعاً، في طبيعة تغطية كلّ حدث في كلّ بلد بحسب خصائصه وظروفه السياسيّة.
ولكنّ هذا الدور اتّخذ منحى مغايراً وجديداً بعد السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر، وهو ما جعل الكيان الصهيونيّ والدول الغربيّة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأميركيّة، يشعرون بالقلق الشديد إزاء هذا الواقع الذي لا يصبّ في مصلحتهم. وبالفعل، نجح مستخدمو منصّات التواصل الاجتماعيّ، رغم كلّ القيود والتضييق والسياسات الظالمة، في نقل حقيقة ما يحدث في غزّة من إبادة جماعيّة بحقّ شعب أعزل، ونشرها في كلّ دول العالم. والعلامة الفارقة هنا أنّ ذلك كان بمختلف لغات العالم وليس بالعربيّة فقط، وهو ما ساهم في إيصال أصوات أطفال غزّة ومعاناة أبنائها وسرديّتهم الخاصّة إلى العالم أجمع، ناهيك عن تصحيح عدد من المفاهيم المرتبطة بالقضيّة الفلسطينيّة، ومنح الفلسطينيّين المنبر لسرد روايتهم الخاصّة للعالم أجمع.
* سيفٌ بحدّين
لا يقف نشاط الكيان وداعميه عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ عند مراقبة المنشورات وحظر الحسابات فقط، وإنّما استفاد جيشه ممّا يُنشر من بيانات وأخبار وصور وفيديوهات ليقتل أفراد هذا الشعب الأبيّ، قادةً وشعباً دون تفريق بين شيخٍ وامرأةٍ وطفل. وقد استغلّ في سبيل عمله العدوانيّ هذا تقنيّات الذكاء الصناعيّ وما وفّرته من مروحة واسعة من أساليب الكشف والتعقّب والمراقبة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: لافندر، غوسبل، نظام التعرّف على الوجه صنيعة الوحدة 8200 (التي استهدفتها المقاومة في مبانيها الرئيسة)، نظام إسقاط المسيّرات، كشف شبكة الأنفاق، وغيرها الكثير.
إنّ هذا الواقع الخطير يضع الجميع، حكومات وأفراداً، أمام مسؤوليّة كبيرة في حُسن استخدام هذه المنصّات، لناحية التأكّد جيّداً من مدى صلاحيّة ما يجب نشره وصوابيّته، حتّى تبقى هذه الوسائل باباً لنقل الحقيقة وليس سكّيناً توضع على رقاب المقاومين والشرفاء.
* حرب السرديّة
حاول العدوّ الصهيونيّ اختلاق سرديّات كثيرة من أجل ضرب جبهة المقاومة الداخليّة والنفسيّة من جهة، وليغطّي على ما يقوم به من مجازر يوميّة بحقّ الشعب الفلسطينيّ. وقد سخّر لذلك لجان عمل إلكترونيّة، فبتنا نصادف صفحات باللغة العربيّة مثل «كابتن إيلا» و«إسرائيل بالعربيّة» موجّهة إلى بيئة المقاومة، في غزّة ولبنان والعراق وسوريا، هدفها طمس حقيقة إجرام الكيان وتبرير أفعاله، وبثّ سرديّات ضدّ المقاومة، وتثبيط عزائم الجماهير المساندة للعمل المقاوم.
قد يصادف المستخدمون هذه الصفحات إذا قاموا بعمليّة بحث عنها، أو إذا كان ثمّة أصدقاء مشتركون أو زملاء عمل ودراسة، أو إذا كان يجمع بينها وبين المستخدمين رقعة جغرافيّة واحدة. لذلك، على المستخدمين أن يكونوا على درجة عالية من الحذر والوعي لئلّا يقعوا في شِباك تلك الصفحات وما تصبو إلى تحقيقه من أهداف خبيثة.
* الحرب الإلكترونيّة خطيرة
إذاً، لقد سخّر العدوّ كلّ إمكاناته الرقميّة ومنصّات شبكات التواصل الاجتماعيّ وموارده البشريّة والماليّة من أجل حشد مزيد من التأييد والدعم من ناحية، ولتأطير القضيّة الفلسطينيّة وقولبتها وفق الرواية الإسرائيليّة من ناحية أخرى، حتّى يخمد صوت الفلسطينيّين ويسلبهم حقّهم في إظهار مظلوميّتهم وقضيتهم المحقّة أمام كلّ الرأي العام العربيّ والدوليّ.
رغم كلّ ذلك، أظهرت عمليّة طوفان الأقصى الدور الكبير لمنصّات التواصل الاجتماعيّ، حتّى باتت سلاحاً فعّالاً في ميادين الحروب والمواجهة، الأمر الذي يستدعي دراسة ماهيّتها في المستقبل في سبيل التصدّي لها ومواجهتها بالشكل الصحيح والمدروس، وردّ الشبهات والأضاليل، وتبيين حقيقة هذا العدوّ المتغطرس الذي لا يعرف أيّ معنى للإنسانيّة. فلننصر المظلومين ولو بكلمة حقّ، وهذا أضعف الإيمان.