د. زينب فهدا
في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجلّت مظاهر الرّحمة والتّعايش مع الآخرين، فرفض العنصريّة والكراهيّة ونبذ الآخر، حتّى غدا المصداق لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107). وانطلاقاً من الإعلان القرآنيّ أنّ الناس خُلقوا من نفس واحدة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ (النساء: 1)، وأنّ الإسلام رسالة عالميّة تستهدف دعوتهم إلى الإيمان، أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقوق الكرامة الإنسانيّة لكلّ فرد من أفراد هذه الأسرة دون استثناء أو تمييز، سواء كان موافقاً أم مخالفاً، مؤمناً أم كافراً، مسلماً أم يهوديّاً أم نصرانيّاً، فكان باباً للرحمة الإلهيّة، وهو القائل: «أيّها النّاس إنّما أنا رحمة مهداة»(1).
* تعامله مع الكفّار
ورد في أحاديث السّيرة النبويّة ما يؤكّد حرصه صلى الله عليه وآله وسلم في التّعامل مع الكافرين من منطلق ما جمعته شخصيّته من قيمٍ إنسانيّةٍ وإسلاميّةٍ، ومنها بعض الأحاديث في بيان معاملة الكافر:
1. الوفاء بالعهد: أمر صلى الله عليه وآله وسلم بالوفاء بالعهد مع الكفّار، لذلك، أعطى لمن كان له عهد عند المسلمين -بعد إعلان البراءة من المشركين بفتح مكّة- أربعةَ أشهرٍ ليبلغوا مأمنهم؛ قبل أن ينفسخ العهد، يقول تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ (التوبة: 1-2). ونبّه صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين من أنّ قتل المعاهد أو ظلمه أو إنقاص حقّه سبب في الحرمان من الجنّة: «من قَتَلَ مُعاهَداً لَمْ يَرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ»(2).
2. التسامح: لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ينهج منهج الصّبر والتّسامح والصّفح مع من آمن وكفر من أبناء المجتمع الواحد على حدّ سواء. واهتمّ صلى الله عليه وآله وسلم ببيان حقّ الجار الكافر وعدم التّهاون فيه. وكان همّه صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك كلّه توفير الوفاق والسّلام والسّعادة والخير للبشريّة جمعاء.
3. احترام الإنسان: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحترم الإنسان بغضّ النّظر عن عقيدته ودينه ومذهبه، منطلقاً من حديث: «من لا يرحم النّاس لا يرحمه الله»(3). وكان صلى الله عليه وآله وسلم في حروبه يحذّر المسلمين من التّمثيل بجثث الكفّار وقتل النّساء والأطفال وكبار السّن.
4. عدم إلغاء الآخر: لم يعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إلغاء الآخر، وتحطيم قيمه الإنسانيّة أو مبادئه، أو زرع الكراهيّة في قلوب المسلمين ضدّ غيرهم، بل تعامل بطريقة إيجابيّة تجسّد روح الإسلام وقيمه، بعد أنّ تجلّت فيه أسمى الصّفات التي تحملها النّفس البشريّة؛ العدالة والرّحمة والرّفق. ويروى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم عفا عن المشركين يوم فتح مكة إشعاراً منه بوجود فرصة أخيرة، كما وزّع غنائم غزوة حُنين على المؤلّفة قلوبهم من قريش وسائر العرب حتّى يكسر حالة عدائهم للإسلام.
* احتواء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب
تجلّى احتواء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب من خلال خطوات عدّة، أبرزها:
1. حُسن الجوار: تجسيداً لقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ (آل عمران: 64). كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى حُسن الجوار والتّعايش مع أهل الكتاب وكلّ من استظلّ تحت لواء راية الإسلام. حين اشتدّ الأذى على المسلمين في بداية الدعوة، توجّهت أنظار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حاكم الحبشة النّصرانيّ، وأمر المسلمين بالهجرة إلى الحبشة لأنّ ملكها عادل لا يُظلم عنده أحد.
2. الحوار: لم يغلق صلى الله عليه وآله وسلم باب الحوار السّلميّ مع أتباع الديانات الأخرى، بل استقبل وفوداً يهوديّة ومسيحيّة عدّة كان أبرزها وفد نصارى نجران، وكانت الدعوة الى المباهلة وليس إلى إشهار السّلاح والقتال، جاء في قوله تعالى: ﴿ومَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران: 61). إنّ المجادلة بالحسنى والابتعاد عن مبدأ الإكراه في الدين من بين المبادىء المهمّة التي أقرّها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشأن علاقة المسلمين بغيرهم.
3. الأمان الدينيّ: من خلال التأمّل في سيرته العطرة، نرى أنّه صلى الله عليه وآله وسلم اتّخذ لنفسه زوجة كانت من الأقباط وقد أسلمت، وهي المعروفة باسم ماريا القبطيّة، وقد كان يوصي المسلمين إذا فتحوا مصر أن يعاملوا الأقباط بطريقة حسنة: «فاستوصوا بالقبط خيراً فإنّ لهم رحماً وذمّة»(4)، فقد أراد صلى الله عليه وآله وسلم بذلك إرساء نوع من الأمان الدينيّ والسّلم الاجتماعيّ مع أتباع الأديان السّماويّة الأخرى، حتّى ينعم المجتمع بالأمن والاستقرار بعيداً عن ثقافة الكراهيّة والتّطرّف التي أنتجت في عصرنا الحاليّ الكثير من حركات التّكفير والقتل باسم الدين.
4. فرض الجزية: كانت الجزية التي فُرضت في ظلّ الحكومة الإسلاميّة على أهل الكاتب مصداقاً لذلك، حيث ضمنت لهم أن يعيشوا في المجتمع الإسلاميّ محافظين على معتقداتهم وهويّتهم الدينيّة الخاصّة.
5. إبرام معاهدات الصلح: وضع صلى الله عليه وآله وسلم العديد من مُعاهدات الصُّلح والمواثيق التي تُحدّد العلاقة مع اليهود على مبدأ التسامُح، ومنها التي كانت مع يُحنة بن روبة، وأهل جرباء، وأذرُح، وغيرهم، ولا سيّما بعد هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حيث نظّم علاقة المسلمين بهم، فكان لهم الحقّ في الحياة، والمحافظة على ممتلكاتهم، فلا يُقتل يهوديّ من دون ذنبٍ. وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة أوفى الناس بهذه العقود، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1). ومن المعروف أن حروبه مع اليهود كانت لسبب أساسيّ وهو نقضهم عهودهم التي أسس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لاحترامها والتزامها.
6. زيارة مرضاهم: ومن مظاهر حُسن تعامله صلى الله عليه وآله وسلم مع اليهود أنّه كان يزور مرضاهم، فقد جاء عن أنسٍ بن مالك أنّ غلاماً يهوديّاً كان يخدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أصابه مرض، فعاده صلى الله عليه وآله وسلم وجلس عند رأسه، فأسلم هذا الغلام اليهوديّ لِما رأى من أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن يتتبّع سيرة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم، يجد أنّ الجانب العاطفيّ الذي ظهر بشكلٍ جليٍّ في شخصيّته كان له دور بارز في تأليف قلوب النّاس على مختلف طوائفهم ومذاهبهم.
* العلاقات الدوليّة
أراد صلى الله عليه وآله وسلم توسيع منطقة الأمن والسّلام، ورسم المعالم الرئيسة للعلاقات الدوليّة والسّياسات الخارجيّة للدولة الإسلاميّة، فتواصل مع حكّام الدول الأخرى وملوكها وأمرائها في اليمن والبحرين والجزيرة العربيّة ومصر والروم وغيرهم ليدعوهم إلى عبادة الله ويحثّهم على الدخول في الإسلام وشريعته السّمحاء. وقد اعتمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك أسلوب المكاتبات والرسائل وإرسال الوفود التي كانت وسيلة من وسائل الدعوة المهمّة آنذاك. وكان لتلك الطّرق آثارها الإيجابيّة، إذ إنّ منهم من آمن ومنهم من هادن.
إنّ كلّ ما قام به صلى الله عليه وآله وسلم كان يهدف إلى ترسيخ التّرابط الثّقافيّ والاجتماعيّ والحفاظ على سلامة الكيان الإنسانيّ، وفتح باب من أبواب التّعايش والحوار والتّفاعل مع مختلف الجهات؛ فالتّعايش ضرورة من ضرورات الحياة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13). فاختلاف الأديان لا يبرّر معاملتهم بطريقة غير أخلاقيّة، بل إنّ نظرة الإسلام إلى النّفس الإنسانيّة هي نظرة مكرّمة ومعظّمة تلقي بظلالها على المسلمين وغيرهم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ﴾ (الإسراء: 70).
1- ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج 4، ص3201.
2- الغدير، الأميني، ج 11، ص 60.
3- مستدرك الوسائل، الشيخ الطبرسي، ج 9، ص 55.
4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 18، ص 131.