ندى بنجك
عاد من تشييعه محمّلاً به، بوجهه، وبصوته، وبمشيته، وحتّى بالحديث الذي يكمن في طيّات قلبه. وهي هذه المرّة الأولى التي يعود فيها من تشييع دون مرافقته.
هل حقّاً عاد من تشييع حبيبه وصديقه ومسؤوله الحاج «أبو نعمة»؟!
* فراق البحر
بات عليه أن يستوعب كلّ الأيّام القادمة تحت وطأة غيابه وفقده. الصباحات والمساءات حمّالة عمر جهاديّ طويل، وتناغم خاصّ بينهما. لم يكن الحاجّ «أبو نعمة» مسؤول وحدة جهاديّة فحسب. لقد كان أباً وأخاً ورفيقاً، قلبه مفتوح كما باب مكتبه، وأنسه لا يقلّ عن بأسه في المعسكر وفي المحور، وإنسانيّته مركب يذهب عميقاً مع قضايا إخوانه بالعناوين العامّة وبالتفاصيل.
عاد من تشييعه محمّلاً به، ثمّ يهمس بأنّه سوف ينصب فراقاً بينه وبين البحر، فهو في خزانة صباحاته رزمة من ذكريات وخلجات كانت تتراكم عند شاطئ صور. عاشق الحديث في وجه الماء كان أبو نعمة، يصبّ فيه أمنية قلبه، وهي مواجهة العدوّ الصهيونيّ من قُرب.
* بلا راحة
بسيط العيش، زاهد الحال، كان حتّى قبل سنوات قليلة ينزل إلى الحقل، يزرع التبغ، يساعد عائلته، وتراب الموسم يترك آثاره على يديه. أن يكون قائداً فهذا تراكم، وخبرة، وحرفة، وفكر سيّال على الجبهة وفي الميدان، أن يكون طيّباً، نقيّاً، عابراً للرتب والمناصب، هدّاماً للحواجز، فهذا هو الوصول والامتياز.
خزانة بلاستيكيّة صغيرة يضع فيها أغراضه، وسرير حديديّ من النوع القديم، وسجّادة صلاة، تلك هي مكوّنات مكتبه. من هذا التواضع كلّه، يطلّ على خرائط البأس كلّها. يطلع من باب داخليّ في مكتبه إلى غرفة الاجتماعات، ومن افتتاحيّة أساسيّة مع القرآن الكريم، يبدأ جلسة مفتوحة على الرصاص في الأرض، على المشهد اليوميّ في فلسطين، وهمم المجاهدين في الجنوب، ومنافذ تركيع العدوّ المحتلّ.
كأنّه مجدّداً ينطوي مع نفسه على غصّة! «على مدار العمر، لم أحتج يوماً أن أتّصل به في بيته، فهو بشكل دائم كان حاضراً في العمل». هل ينقضي العمر بلا راحة؟! بلا متنفّس؟!
بلى، كان يستريح، ومتنفّسه الجميل، هو ذهابه إلى المساجد القديمة المهجورة. على الطرقات وفي القرى، هناك، كان يستكين من مشواره، يتّكئ على راحة يده، يصلّي، لكن ليس لديه الوقت لينام.
- ومتى ينام؟
- «كان يعتبر أنّ النوم يأخذ من وقته، وهو بحاجة إلى كلّ الوقت، يبقى مستيقظاً حتّى الفجر، وإن غفا، ينهض قبل انقضاء الفجر، عباداته سلسة، يؤمن بأنّ الصدق هو العبادة الأقرب إلى الله».
* سلاح القرآن
وفي مهبّ هذا الضوع يأتي القرآن، هو والنور الذي منه، صديقان لا ينفصلان، فقد كان مهتمّاً بشأنه روحاً ومعنىً وثقافة. حرص خلال تولّي مسؤوليّة وحدة «عزيز» على تأسيس ميدان مفتوح لتلاوة القرآن الكريم وحفظه، والإلمام بكلّ جزئيّات التلاوة والتجويد، من خلال الدورات المتواصلة وحلقات التثقيف، حتّى بلغ عدد المتخرّجين في وحدته ما يقارب 1100 مجاهد، يتسلّحون بثقافة القرآن، كما شؤون العسكر.
أمام هذا الفيض النورانيّ، هو في قلب الكليّة والتحصيل، لا يفوته درس ولا مناسبة، كما بقيّة الإخوان عنده، إذ يعدّ الأمر من أولويّاته وواجباته. والذي يستقي جهاده من هذه المتون، سيطول الحديث عنه تحت فيء الأخلاق، له معها ومع مضارب في الإنسانيّة الكثير من الفنون والشجون.
* وداع الأحبّة
قال: رأيته في وسط الحريق، يوم اندلع في الصيف الماضي في إحدى النقاط في القطاع الغربيّ، يتقدّم وسط الدخان، يسحب الماء ويستعجل الإطفاء، وما أكثر المشاهد والصور التي ستشعل القلب كلّما ورد ذكره، وليس للشوق أيّ وِردٍ لتفاديه، وليس للحنين انطفاء.
كم مرّة، سوف يكون هناك أوّل مرة، والقائد الصديق لا يهاتفه ويسأله: «أيّ ساعة تشييع الشهيد الفلانيّ؟»، ثمّ يحرص على أن يصل قبل الدفن. لديه شغف في النزول إلى اللحد، في لمس التراب الذي سوف ينزل فيه، في وضع يده مكان الوجه، ومكان الابتسامة الطريّة المتجمّدة، وفي وداع الشهيد وإيداعه ما تيسّر من همس وشوق لكلّ الركب المسافر الذي سبق من الأحبّة.
مثقل بغربة من كثرة وداع الأحبّة. من أيّام الزمن الجميل في إقليم التفّاح، والنوم فوق سقف الغيم المحتدم في «صافي» واللويزة، من أيّام حفر مغارات المرابطة، وحتّى جذع الشجر الأخير في القطاع الغربيّ، للحاج أبي نعمة، روح هناك مذخورة. الناس تقوى بالنسيان، وهو يقوى بالحنين، ظلّ يئنّ ويحنّ، وبين عينيه رغم الألم المتراكم ثمّة يقين، بأن لن تفوته المغادرة.