لقاء مع الجريح المجاهد محمّد عصام زعيتر (هادي)
حنان الموسويّ
تكاتُف الأبنية المزدحمة شكّل عائقاً أمام تقدّمنا، وأنفاق المسلّحين المخفيّة ساعدتهم على قنصنا. ولأنّ الوضع الذي كانت عليه منطقة الخالديّة كان يتطلّب اتّخاذ إجراء جديد، فقد اضطررنا لاستدعاء عديدٍ أكبر من المجاهدين ممّن حملوا القلوب على أهدابهم، ليهزموا الدواعش ويقضوا عليهم.
استقبلت أربعة شبّان وكنت دليلهم، عرّفتهم على المنطقة والنقاط واحداً تلو الآخر. لمّا أكمل مهمتّي مع المجاهد الثالث بعد، حتّى وردت حوض المعشوق غارقاً بدمي، حين اخترقت ثلاث طلقاتٍ رأسي وعنقي ويدي اليسرى.
•تأثّرٌ فِطريّ
وأنا فتى في التاسعة من العمر، كنت أتابع عمليّات المقاومة على قناة المنار، فتأثّرت بالمجاهدين وهم يقتحمون المواقع. وفي عام 2003م، بدأت أحضر دروساً نظريّةً مع رفاقي في التعبئة التربويّة في شعبة "دورس" بالتزامن مع متابعة دراستي، إلى أن خضعت لمجموعة من الدورات العسكريّة، ومن بعدها، صرت أتدرَّب وأدرِّب. سرعةٌ مذهلة في تواتر التدريبات مهّدت للمشاركة في معركة الدفاع عن المقدّسات في سوريا.
•جموع الكفر
بعد القضاء على جموع التكفيريّين في حمص، جاؤوا بمجموعاتهم إلى الخالديّة، فاقتصرت مهمّتنا على تحريرها من المسلّحين. طبيعة البنايات الشاهقة، والعمران المتلاصق، ووجود شبكة تمديدات صحيّة معقدة ما ساعد المسلّحين على تحويلها إلى أنفاق، حال كلّ ذلك دون تحقيق هدفنا بسهولة. وفي اليوم الرابع للقتال، عُيّنت قائداً لفرق الهجوم بديلاً عن الشهيد حمزة حيدر.
أجواء شهر رمضان لم توقف هجماتنا، فكانت أيّامه مكلّلة بالشهداء والجرحى. همسٌ لطيفٌ في أذني ذكّرني برغبتي في الشهادة. ومع غروب ذاك اليوم صلّيت وأفطرت، ثمّ عرفت قرار القيادة بضرورة استبدال المجاهدين بسبب ضراوة المعركة.
•امتحان إلهيّ
في اليوم التالي، تولّيت قيادة مجموعة الهجوم الجديدة، باغتني سؤال شابٍّ أثناء المسير وحيّرني: "ماذا إن أُصبت؟". فكرة الامتحان الإلهيّ رسخت في ذهني، فسلّمت بقضاء الله تسليماً مطلقاً، مرحِّباً بالشهادة أو الجراح. تقدّمنا في منطقة العمليّات، وبدأت أوجّه الإخوة واحداً تلو الآخر. وعند اصطحابي للأخ الثالث، اخترقت طلقة قنّاصٍ دماغي 12 سم ومعها بعض عظام جمجمتي، وطلقة قنّاصٍ آخر عبرت عنقي لجهة اليسار، وثالثة شقّت يدي اليسرى.
نقلني المجاهدون من مبنى إلى آخر، سيل النزف رسّخ في أذهانهم فكرة شهادتي، إلّا أن نبضاً خافتاً خالج شرياناً قرب ركبتي أحسّ به مجاهدٌ، دفعهم للقيام بإسعافاتٍ أوّليّة ونقلي سريعاً إلى المستشفى الميدانيّ. جمد الدم من تلقاء نفسه بعد أن شقّوا وريدي، لذا، نقلوني إلى مستشفى حمص حيث مكثت ثلاثة أيّامٍ فاقداً الوعي، ومنه إلى مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حين استقرّ وضعي، وكانت إصابتي حينها أول حالةٍ خطيرة لجريحٍ مصاب في دماغه. بقيت في غرفة العناية المركّزة تسعة أيّامٍ في غيبوبةٍ تامّة، خضعت خلالها لجراحتين في رقبتي واليد اليسرى لاستخراج الطلقتين منهما. في اليوم العاشر، اجتاحت جرثومة دماغي، تسبّبت لي بحمّى مميتة، لكنّ ألطاف الله قضت عليها سريعاً. بعدها، حرّكت بعض أطرافي قيل إنّها حركات لا إراديّة، فقد كان ثمّة احتمال لوجود خللٍ في الدماغ والحواس أو شللٍ تامّ بسبب الإصابة البالغة، وبات إجراء أيّ جراحة للرأس محفوفاً بالمخاطر، فبقيت طلقة الدماغ وبقايا عظام الجمجمة في مكانها، وتوجّبت مراقبتي فقط مع إعطائي بعض الأدوية المساعدة.
•معجزة مباركة
حين استعدت وعيي، كنت فاقداً للبصر بشكلٍ كامل، وأعاني من شللٍ في جانبي الأيسر، فتوجّب خضوعي لعلاجٍ فيزيائيّ. بقيت في المستشفى مدّة شهر، إلّا أنّ معجزة أعادت جزءاً من النور لعيني اليسرى الهزيلة قبل أيّامٍ من خروجي. وبعد عودتي إلى المنزل، واظبت على التردّد لمتابعة مشكلة النظر، وبعد اطّلاع الطبيب المختصّ على صور الدماغ، اتّضح أنّ عيني اليمنى قد تلفت، أمّا اليسرى فتحسّنها جزئيّ، لكنّ معجزة خفيّةً أعادت إليها ضياءها.
•جرحٌ وصبر
تواصل الإخوة مع أخي وأخبروه أنّي مصابٌ في كتفي، ويجب حضور الأهل إلى مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيروت، فحضر برفقة والدي وزوجتي، وعلموا حينها بأنّي في العناية المشدّدة وأنّ إصابتي ليست طفيفة، ولكنّ الضماد الذي غطّى كامل رأسي جعلهم لا يعرفونني في البداية. وعندما أدركوا أنّي ما بين الحياة والموت، سلّموا أمري إلى الله تعالى.
تولّت والدتي وزوجتي الاعتناء بي والبقاء قربي في المستشفى، وسكنت عائلتي في منزلٍ استأجرته مؤسّسة الجرحى لتسهيل أمر زيارتي خلال مدّة مكوثي هناك، بينما تابع أخي أموري بشكلٍ دوريّ. خضعت للعلاج الفيزيائيّ في المنزل، ما ساعدني على الشفاء من الشلل الذي أصابني، واستعادة عافية الدماغ.
•جهادٌ مستمرّ
بفضل الله، لا أتناول حاليّاً أيّ دواء، ولا أعاني من أيّ ألمٍ. أمّا بالنسبة إلى حال نظري، فلا أستطيع الرؤية بصفاء، وأعجز عن تحليل الصورة بشكلٍ طبيعيٍّ بسبب تلف المنطقة المسؤولة عن هذه الوظيفة في الدماغ.
الجميل هو أن أكون موضع عناية الله عزّ وجلّ الذي حفّني بمعجزات الشفاء، وجعلني أكون على قدر البلاء الذي قسمه لي، وأصبر عليه مهما بلغت قسوته. وقد نلت في نهاية طريق ذات الشوكة شرف الإصابة في سبيل الله برضى واحتساب، آملاً الحفاظ على وسام هذا الشرف. واخترت الاستمرار عبر أعظم الجميل، وهو السعي في قضاء حوائج الناس.
كلّ الشكر لمؤسّسة الجرحى، وأتمنّى لكلّ العاملين فيها التوفيق، وأن يتقبّل الله سعيهم، فما يقدّمونه من خدماتٍ في سبيل راحة الجرحى عظيم القدر والشأن، لا يعلم ثوابه إلّا الخالق، فأسأله تعالى أن يعينني على ردّ جميلهم ومكافأتهم بما يليق بعملهم المبارك.
•اسم الجريح: محمّد عصام زعيتر.
•الاسم الجهاديّ: هادي.
•تاريخ الولادة: 23/8/1984م.
•مكان الإصابة وتاريخها: الخالديّة-حمص 13/7/2013م.
•نوع الإصابة: طلقات في الرأس والرقبة واليد اليسرى، وفقدان جزئي للبصر.