القادة الشهداء
هو الاسم الذي كان يملأ الرعب في نفوس الأعداء، ويبعث على الحيويّة والأمل في نفوس الأصدقاء. في بداية عمله، اختار لنفسه اسم "المختار"، وفي منتصف مسيرته الجهاديّة، اختار اسم "رضوان"، وفي النهاية، نال الرضوان الإلهيّ.
* إيمان شديد
كان يبدو شخصيّة عاديّة، يجلس معك ويتناول الطعام والشراب، ولكن أيّ من العوامل الماديّة الدنيويّة لم يصبح محوراً لتعلّقاته، حتّى الأولاد؛ لأنّ محور اهتمامه كان المسؤوليّات الثقيلة الملقاة على عاتقه، فلم تؤثّر فيه أيّ لحظة أو مشهد دنيويّ، بل تسامت نفسه عن ذلك كله.
إذا لم يكن الاحتراف تحت سيطرة الإيمان والمعنويات السامية، سيكون دوره مخرّباً بدل أن يكون مصلحاً. أمّا الشهيد عماد، فقد كان علمه وعقله وشجاعته، جميعها تخضع لسيطرة إيمانه، ويراقب نفسه باستمرار. لذلك، حين نسأل أصدقاءه حول حالاته المعنويّة التي شاهدوها مرّات عديدة، فإنّهم يقولون إنّه كان مُرهفاً شديد البكاء. في اجتماع ضمّنا، كانت إحدى القنوات التلفزيونيّة تبثّ مسلسل الإمام الرضا عليه السلام، في آخر الحلقة، يدسّ المأمون السمّ للإمام عليه السلام، يومها أجهش الشهيد عماد بالبكاء الشديد لدرجة أنّه قلب أجواء الاجتماع حزناً وبكاءً. وكان البكاء وسيلته التي يشكر بها الله سبحانه وتعالى، خصوصاً عندما تنفّذ المقاومة عمليّةً ناجحة.
* شخص متواضع
ومن حالات الشهيد عماد الخاصّة، أيضاً، التواضع، فقد كان إنساناً متواضعاً، بالرغم من كلّ الإنجازات التي قام بها والانتصارات التي حقّقها. فخلال تلك السنين التي عرفته فيها، وخلال الأيّام والليالي التي قضيناها سويّاً، لم يتحدّث عن أيّ دور له في أيّ عمليّة أو إنجاز للمقاومة. ذات يوم، ذهب إلى الجنوب في مهمّة ما وعقد اجتماعاً مع بعض الإخوان، وتخلله عشاء، كان غير معروف لمعظم الحاضرين، رغم أنّ اسم عماد مغنيّة كان معروفاً داخل الحزب. وفي نهاية الاجتماع، قام وغسل بعض الصحون ثمّ انصرف. وبعد مغادرته، قال أحد الإخوان: "هل تعلمون من هذا الرجل؟ إنّه الحاج رضوان"، فتعجّب الحاضرون لشدّة تواضعه وتديّنه.
* صفع الفزّاعة
أحد أهّم الأعمال التي قام بها الشهيد عماد داخل المجتمع اللبنانيّ المحروم، أنّه كسر الخوف وصفع "الفزّاعة" المتمثّلة بالعدوّ الصهيونيّ، ونقل البلاد من الموقع الذي كان يتلقّى الضرب والصفعات من العدوّ إلى مرتبة مستقلّة وشامخة، فقد كانت بداية ذلك الواقع على يد الشهيد عماد مغنية، واستكمل هذا الأمر حزب الله الشامخ وقيادته المحترمة.
الشهيد عماد لم يكن مسؤولاً عادياً، كان قائداً لا سائساً(1)، فبعض المسؤولين يكونون زعماء ولكنّهم سائسون، أي يقودون مجموعاتهم ويحرّكونها من الخلف، لا يتقدمونها، بيد أنّ القائد يتحرّك أمام مجموعته ويصدر الأوامر والتعليمات من ذلك الموقع، أمامهم في الميدان لا خلفهم. لقد كان الشهيد المحور الرئيس في العمليّات التي أدارها، إذ كان من غير الممكن أن تتمّ أيّ عمليّة من دون حضوره المباشر في الميدان، وفي أقرب نقطة للعدوّ ليُشرف منها على سير العمليّات.
* الاستفادة من التجارب
كان الشهيد عماد يمتلك أسلوباً عجيباً في التعليم والتربية، فرغم أنّه كان مربّياً وله تلاميذ كثر، فقد كان كالتلميذ المحتاج الذي يستفيد من تجارب الآخرين، فيجلس مع الإخوة الفلسطينيّين والعراقيّين ويكتشف تجاربهم ويستفيد منها. حتّى في الجانب التربويّ والثقافيّ والعقديّ، كان يجلس لساعات مع العلماء ومع مختلف الأشخاص ويسجّل ملاحظاتهم البارزة في مجال التربية، ثمّ يطبّقها في تربية المجاهدين وتوجيههم؛ ليكونوا قادرين على تحمّل الصعوبات والمشقّات. وبالفعل، امتلك هذا الأثر بشكل فعّال. ويمكن القول إنّ عدداً كبيراً من كوادر المقاومة في فلسطين والعراق وإيران وأماكن أخرى قد نشأوا وتربّوا في مدرسة عماد مغنيّة.
* رجل المفاجآت
صفة أخرى نادرة في شخصيّة الشهيد عماد هي أنّه كان رجل المفاجآت. ففي مواجهاته كافّة مع العدوّ الصهيونيّ، ورغم كلّ تدابير العدوّ التي يجريها أو يفكر فيها سعياً لكشفِ عمل الشهيد، إلّا أنّه كان على الدوام يفاجئ الصهاينة بأشياء جديدة في كلّ الإجراءات التي يتّخذونها. والشخص الذي تمكّن للمرّة الأولى من كشف طائرات العدوّ من دون طيّار واختراق بثّها المباشر والتقاط صورها بشكلٍ مباشر، ثمّ تحليلها لمعرفة ماذا يريد العدوّ أن يفعل في جنوب لبنان، كان الشّهيد عماد، الذي حثّ الهمم ووضع التصاميم، فكانت عمليّة أنصاريّة أكبر هزيمة للعدوّ، وكانت نابعة من فكره الفنيّ واهتمامه الخاصّ.
انظروا إلى تاريخ حروب الكيان الصهيونيّ في لبنان لتعرفوا دور قوّته البحريّة التي كانت تقوم بقطع الطريق الوحيد بين بيروت وجنوب لبنان. في حرب تمّوز 2006م أعدّ الشهيد عماد مفاجأة خاصّة لبحريّة العدوّ الصهيونيّ، فبتسديد من الباري تعالى، وفي اللحظة التي خرجت من الفم المبارك للعزيز الأمين العام لحزب الله هذه الكلمات: "انظروا إليها تحترق"، أُطلق صاروخ دمّر إحدى البوارج الصهيونيّة، كانت هذه العملية تحمل لمسات الشهيد عماد.
* خلق الفرص
إحدى خصوصيّات الأشخاص الاستراتيجيّين الذين يمتلكون فكراً سامياً أنّهم يستفيدون باستمرار من الفرص. والشهيد عماد كان يخلق الفرص من حالات الأمل واليأس على حدّ سواء. عادةً ما نخلق الفرص حينما يكون هنالك أمل أو حينما يتعرّض العدوّ للهزيمة واليأس، ولكن حتّى في أسوأ الظروف، كان الشهيد عماد قادراً على خلق الفرص، فحين وصل العدوّ الصهيونيّ إلى مشارف بيروت، قام بهدم العديد من المناطق والأحياء الشيعيّة والسنّيّة والمسيحيّة، ولكن خطوة إبداع واحدة تمكّنت من ردّ كيد هذا العدوّ إلى نحره وإفشال مخطّطاته، وهي التفجير العظيم لمقرّ الحاكم العسكريّ في صور. وكما أخرجه من بيروت، أرغم الكيان الصهيونيّ على الفرار من جنوب لبنان، في أيام تحرير 25 أيّار، حيث لاحق الشهيد عماد العدوّ على نحو جعله يترك كلّ تجهيزاته ومعدّاته خلال عمليّة الفرار، وقد فرّ ذليلاً.
* بصمة خاصّة في فلسطين
إنّ الذي ربط الجماعات الفلسطينيّة بمركز دعم محور المقاومة، كان عماد مغنيّة. ومن جاء بياسر عرفات إلى إيران كان عماد مغنيّة، وهو الذي أسّس مع الشهيد فتحي الشقاقي والقيادات الفلسطينيّة السابقة والحاليّة الجهاد الإسلاميّ. لقد بذل الشهيد عماد جهوداً كبيرة من أجل تعزيز قدرة حماس والجبهة الشعبيّة. ولهذا السبب، أطلق الأمين العام المحترم للجهاد الإسلاميّ هذه الجملة: "في كلّ صاروخ يُطلق من فلسطين تشاهدون أثر بصمة عماد مغنيّة"، وهذا الكلام صحيح.
* محطّ احترام الأعداء
هذه الشخصيّة الأسطورة وُصفت بعبارات جميلة جدّاً. لقد قرأت معظم التعليقات الدوليّة، ومئات المقالات والخطابات التي صدرت بخصوص الشّهيد عماد، ولم يتمكّن أيّ أحد منهم من ذمّه، بل مدحه الجميع ودون استثناء. كل الذين انتقدوا الشهيد عماداً، قاموا بمدحه بعبارات سامية؛ لانّهم كانوا يتابعون أخباره ويعرفونه جيّداً بوصفه شخصيّة تعرّضت لملاحقة أجهزة الاستخبارات العربيّة والصهيونيّة، لكنّها أفشلت جميع مخطّطاتهم وإجراءاتهم على مدى 25 عاماً.
أذكر حين كنت جالساً في غرفة عمليّاته، أزاح الستار عن النافذة وقال: "هل ترى ذلك الطابق؟ هناك يوجد منظار وفريق لمراقبتي". ورغم معرفته بذلك، كان الشهيد يبقى على تماس مباشر مع العدوّ ويُلحق به الهزائم، فالأميركيّون والإسرائيليّون جاؤوا مرّات عديدة، لكنّهم فشلوا وقُتلوا أو غادروا المكان.
* الطاعة للقيادة
عماد كان شخصيّة عجيبة، إذ استطاع أن يدخل بيوت من كانوا بعيدين عن نهج حزب الله، ويناقشهم في محاولة إقناعهم بمسار الحزب. ففي الكثير من المواقع التي كان يذهب إليها بعض المسؤولين بمرافقة فريق حماية كبير، كان الشهيد عماد يذهب إليها بمفرده، ويتباحث مع الحاضرين ويخرج، حتّى وُصف بأنّه كان في غاية الدقّة، إذ كان يحلّ في الوقت المناسب كالسيف والبرق ويختفي بسرعة كالشبح.
هذا الإنسان بهذه الخصوصيّات، كان لديه تبعيّة عجيبة لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، لم يكن يتّبع أوامره فحسب، بل كان متواضعاً أمامه، حتّى عندما يكون لديه وجهة نظر مختلفة في موضوع ما، يكون أمر سماحة السيّد، هو حيز التنفيذ فقط، ويعتقد مخلصاً بوجوب الإطاعة.
نتيجة بعض الظروف، كان يبدو على سماحة السيّد القلق أحياناً، فما كان من الشهيد عماد إلّا أن يجالسه حتّى الفجر، ولم يكن يغادر منزله حتّى يرسم الابتسامة على شفتيه ويطمئنّ إلى أنّه راضٍ. هو صاحب اعتقاد راسخ بأنّ من منح العزّ للبنان هو سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، لذلك، كان حريصاً على التزام أوامره. ونتيجة هذه العلاقة المميّزة، كانت شهادة الحاج عماد ثقيلة جدّاً على سماحته.
* القصاص لدم الشهيد
صحيح أنّ الشهيد عماداً شخصيّة لن تتكرّر بنوعها، ولكن الإسلام العزيز يُخرّج من رحمه شخصيّات جديدة دائماً، وهذه لن تكون النهاية كما لم تكن غيرها. والأمر الذي يجب أن يعرفه العدوّ هو أنّ القصاص لدم الشهيد عماد ليس بإطلاق صاروخ أو قتل شخص ما، بل القصاص لدمه ولجميع أمثالِه الذين استشهدوا في فلسطين ولبنان وإيران وفي أماكن أخرى، هو إزالة هذا الكيان الصهيونيّ من الوجود. هذا الوعد الإلهيّ سوف يتحقّق لا محالة، نحن نؤمن بصدقه، وقد لمسنا ذلك في مواطن مختلفة.
(*) خطاب قائد فيلق القدس الحاج قاسم سليماني في الذكرى العاشرة لاستشهاد القائد الحاج عماد مغنيّة 14/02/2018م - طهران. المصدر: مؤسسة قاف
(1) السائس: الذي يقود عربة الخيل.