مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تسابيح جراح | “يا حسين أعنّي”


لقاء مع الجريح المجاهد علي مصطفى رباح (محمّد باقر)
حنان الموسويّ


اصطدمنا بجرفٍ صخريٍّ قاسٍ، في أسفله صخور بدرجات مختلفة الحجم، استتر خلفه المسلّحون واختفوا. بصفتي قائد المجموعة تقدّمت بحذر، وصرت أتسلّق الصخور واحدةً تلو الأخرى، ومن هناك، بدأت قصّتي.

* يتيمٌ مجاهد
درست في مبرّة الإمام الخوئي قدس سره، ونشأت في القسم الداخليّ منها لأنّني يتيم الأب، وبقيت فيها عشر سنوات حيث تعلّمت الصلاة والصوم والتعامل برحمةٍ ومحبّةٍ وأدبٍ، ثمّ انتقلت إلى معهد «علي الأكبر» ودرست فيه مدّة خمس سنوات اختصاص الفندقيّة. وقبل حصولي على الشهادة بسنة، التحقت بعملٍ جهاديّ في بلدة النبي شيت، وساعدت أحد الطهاة في تحضير الطعام للمجاهدين. عام 2007م، تعاقدت في حزب الله وبدأت العمل الجهاديّ، وخضعت على مدى سنوات لدورات عدّة.

* إلى قلب المعارك
في بداية أحداث سوريا، تفرّغت للعمل الميدانيّ، وكان الوضع لا يزال غير مستقرٍّ في الداخل السوريّ، فاستُدعيت للعمل هناك. مع الفجر، يومها أوصلت زوجتي وابنتيّ التوأمين فاطمة وزهراء إلى منزل أهلها، وطلبت منها أن تدعوَ الله لي بنيل الشهادة، أو أن يرزقني الرضى بما سيكتبه لي.

وصلت إلى المركز عند الساعة السابعة صباحاً، جهّزنا العتاد وانطلقنا نحو رنكوس، النقطة التي يجب الوصول إليها. اتّخذت لي مكاناً عند أطراف الساتر الترابيّ الذي أنشأناه، بعد أن وفدنا إلى نقاطنا. استطعت عند الساعة الحادية عشرة الاتّصال بزوجتي لأطمئنها عنّي، وكنت أشعر أنّ أمراً ما قد خُطّ لي، وحتماً سألاقيه.

* عند الصخرة الثالثة
تمركز الأعداء خلف الساتر الترابيّ حيث توزّعت نقاطنا قبله، وكانت مهمّتنا مهاجمتهم والقضاء عليهم. جاء الأمر بتطوّع مسؤولي المجموعات لاقتحام أوكار جبهة النصرة وتصفيتهم، وفتح ثغرة تمكّن المجاهدين من العبور للاشتباك والتقدّم، فتُهدَم تحصينات الأعداء ويشتَّت جمعهم في آخر معقلٍ لهم، وكنت من بين المتطوّعين مع رفيقي علي مرتضى، ورافقنا تسعة شبّان من الجيش السوريّ.

400 متر هي المسافة بين الجبهتين، تشاورت وصديقي عمّن سيكون قائد الهجوم، وبعد إصرارٍ كبيرٍ منّي رضخ لطلبي في أن أتقدّم قبله.

مشينا قرابة العشرين دقيقةٍ حتّى اصطدمنا بجرفٍ صخريٍّ يرتفع ثلاثة أمتار، اتّخذ الإرهابيّون منه متراساً لهم. اعتليت الصخرة الأولى ورميت قنبلة يدويّة، وانتظرت ردّاً من الأعداء، سكون حركتهم دفَعني لتسلّق الصخرة الثانية ورمي قنبلةٍ أخرى، لم يأتِ الردُّ إلّا عند صعودي الصخرة الثالثة، ورمي قنبلة جديدة، كان المسلّح ينتظرني في خندقٍ مخفيِّ، ما إن لمحني حتّى اشرأبّ من تحت الأرض واستهدفني بقذيفة B7 من مسافة عشرين متراً، أصابتني بشكلٍ مباشرٍ فقذفني ضغطها في الهواء، وسقطت بعدها أسفل الجرف حيث استقبلت الأديم قاعداً.

* معجزة الوقوف
أعدت ترتيب وضعي بلهفة ندائي “مولاتي يا زهراء”، ولهجت أستغيث بها لأقوم. الدماء التي جمدت على عينييّ غشت على بصري وما عدت أرى مكاني. اتّكأت على يدي اليسرى لأقف، فهويت مستقبلاً بوجهي التراب. حينها، صدحت استغاثتي بقمر الطالبيّين منادياً “يا أبا الفضل”. أدركت أنّ يسرايَ قد بُتِرت، فاستندت إلى يدي اليمنى، فأثارت وجعي حصى صغيرة دخلت بين خنصري المعلّقة بعرقٍ صغيرٍ والبنصر، وصل الألم إلى صميم دماغي فاستشاط زحام الزخم في حنجرتي، وناديت «مولاي يا حسين أعنّي على الوقوف بحقّ خنصرك المبتورة، فها قد واسيتك بخنصري اليمنى».

صديقي علي مرتضى كان في مرمى القنّاص، لم يستطع الاقتراب منّي لكنّه شهِد ما حصل معي، رأى بأمّ عينه المعجزة التي تجلّت حين استطعت الوقوف، وعبور مسافة العودة بزمنٍ قياسيٍّ وعين القنّاص ترقُبني بكامل الجهوزيّة لاصطيادي. كنت كمن طُويت له الأرض، وحيل بيني وبين ما يشتهي عدوّي، فلم يستطِع لأذيّتي سبيلاً حتّى وصلت إلى نقطتنا.

* جراحات مختلفة
عند وصولي كان المسعف بانتظاري، طلبت منه أن يدثّرني بغطاءٍ، فنزف الدم أثلج أوصالي، عرّفته بنفسي بعد سؤاله من أكون، وبدأ بإسعافي مذهولاً لسرعة عودتي رغم المسافة البعيدة وكثرة جراحي ووفرة نزفها. تشاجرت معه ممازحاً حين مزّق بنطالي العسكريّ، ذاكراً له شدّة تقديسي لهذا الزيّ، كما أخبرته متأثّراً أنّي عدتُ بالحذاء العسكريّ للقدم اليمنى دون حذاء اليسرى. كما أنّي تركت ذراعي اليسرى هناك، ورغم ذلك كلّه، كنت منشغلاً في كيفيّة وقف النزف الذي طال، قبل أن أفقد وعيي.

سريعاً، نُقلت في آليّة PMB إلى الإسعاف ومنها إلى مستشفى صيدنايا الميدانيّ، ثمّ إلى مستشفى دار الحكمة حيث مكثت ثلاثة أيّام، ومنه إلى مستشفى بهمن في بيروت. طال وجودي فيه مدّة 33 يوماً، خضعت خلالها لإحدى عشرة جراحة في مختلف أنحاء جسدي: يدي اليُسرى، يدي اليُمنى، رأسي، أذني، قدمي، عيني اليُسرى، وفكّي الذي بقي مقوّماً طيلة أسبوعين، حتّى تحسّن وضعي.

* عزيمةٌ وصلابة
حضر الأقارب إلى المستشفى. وضع والدتي الحسّاس كونها مصابة بأمراض مزمنة عدّة، حتّم مداراتها وعدم إخبارها مباشرةً. أمّا زوجتي فقد تبلّغت بإصابتي التي توقّعتها، لكن ما طمأن بالها أنّ قلبي ما زال يخفق.

لم أعبأ لوحدة عيني ويدي، بل رضيت بالوسام الذي حباني الله به، بعد أن ضُمِّخ جسدي بالجراح. تلك الضحكات التي أهديتها لكلّ من حولي، أرست في قلوبهم الرضى والقبول بقسمة الله.

كنت أتماثل للشفاء سريعاً، بدا ذلك بعد الأسبوع الأوّل للإصابة، وبدأت حالتي تتحسّن تدريجيّاً بحمد الله. بعد خروجي من المستشفى بأسبوع، أصررت على قيادة السيّارة رغم تحذيرات إخوتي لي ونهيِهم عن قيامي بذلك، حاولت إمساك المقود بيدي اليمنى، لكنّ ألماً وصل إلى أمّ رأسي تسبّب به كسرٌ في معصمي لم أكن على علمٍ به، فأجّلت الأمر لوقتٍ لاحق.

* خدمةٌ ممزوجةٌ بالشكر
تابع القيّمون في مؤسّسة الجرحى حالتي منذ إصابتي، ولم يغفلوا عنّي للحظة، وتولّوا أمر رعايتي، فلهم كلّ الشكر والامتنان. ولأنّ المؤسّسة كانت الحضن الآمن والدافئ لي، ازداد تعلّقي بها، لذا، تطوّعت في خدمة إخواني الجرحى لأربع سنواتٍ ونصف اختفت خلالها الأوجاع من أنحاء جسمي كافّة، وأحمد الله أنّ سنواتٍ ستّةً مرّت بعد الإصابة، لم أتجرّع خلالها أيّ دواءٍ حتّى المسكّن، إلى أن أُصِبت بنوبةٍ عصبيّة دماغيّة، نتجت عن تحرّك الشظايا المستقرّة في رأسي.

عملت على تأمين الأدوية اللازمة للجرحى، فلم تعقني إصابتي عن التركيز في إنجاز المطلوب. كنت أقود السيّارة وأتابع عملي بشكلٍ شبه طبيعيّ، وقد ساعدني الإخوة المعنيّون بالملف الصحيّ في المؤسّسة، لإتقان طريقة إنجاز الملفّات فأتمّ عملي على أكمل وجه. لكنّ تكرار تلك النوبات وفقداني الوعي، اضطرّاني قهراً إلى ترك العمل، رغم أنّي أحتاجه بشدّةٍ لما له من تأثيرٍ إيجابيٍّ على صحّتي النفسيّة، ولأنّ الجهاد في سبيل الله يسري في دمي.


اسم الجريح: علي مصطفى رباح.
الاسم الجهاديّ: محمّد باقر.
تاريخ الولادة: 2/9/1986م.
مكان الإصابة وتاريخها: رنكوس، 4/5/2014م.
نوع الإصابة: بتر اليد اليسرى واستئصال العين اليسرى.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع