الشيخ يوسف سرور
سُئل الشيخ بهجت قدس سره عن كيفيّة إنشاء علاقة محبّة وصلة قويّة بالإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فأجاب: "لا تذنب، وصلِّ في أوّل الوقت".
لا شكّ أنّ الصلاة تحوز درجةً خاصّةً في الدين، فهي عموده، ومتى قُبلت قُبل ما سواها. وثمّة فضيلة خاصة للصلاة إذا ما أدّيت في أول وقتها، وهي أمل المصلّين والمؤمنين، وعاملٌ أساسيّ في بناء علاقة عبوديّة بالله تعالى، وولائيّة بصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
•الصلاة وجه الدين
قال الإمام الباقر عليه السلام عن أبيه: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكلّ شيء وجهٌ ووجهُ دينكم الصلاة، فلا يُشينَنَّ أحدُكم وجهَ دينه"(1). فالصلاة من الدين بمثابة الوجه من المرء، فبها يُعرَفُ أهل الدين. والمؤمَّل من المؤمن العاقل أن يحفظَ وجهَ دينه وعمودَه، وأن يحميَ أساسَه؛ لأنَّ في حفظ الصلاة حفظاً للدين وإحرازاً للعاقبة الحسنة التي يَنْزَعُ إليها كلُّ ذي فطرة سليمة وفكرة قويمة.
•المصير منوط بها
من الجليّ أنَّ مصيرَ المُكلّفين مرتبط بالصلاة: من حيث إتيانها والاهتمامُ بها وحفظها؛ لذلك، إذا قُبِلَتْ الصلاة، يُنظرُ في الأعمال الأخرى، وإذا لم تُقْبَلْ، ضاعت بقيَّة الأعمال مهما كان في جعبة المرء ممَّا يُغْبَطُ عليه من العمل الصالح. إنَّه لموقفٌ باعثٌ على الحسرة وعظيم الندامة أن تضيعَ الجهود العظيمة وثمارُها في وقتٍ يكون صاحبها بأمسّ الحاجة إلى الاستفادة منها، وذلك في الوقت الذي تنعدم فيه فرصُ التدارك والاستنقاذ.
من هنا، نفهم معنى أن تكون الصلاة عمودَ الدين، ومن دونها تصبح الفضائل كالنّبتة اليتيمة أو القطع المنفصلة المتناثرة، حتّى لو كانت ذاتَ حقيقة نورانيّة، "وهي أوّلُ ما يُنظَرُ فيه من عمل ابن آدم، فإن صحَّت نُظِرَ في عملِهِ، وإنْ لم تَصُحَّ لم يُنْظَر في بقيَّة عمله"(2).
وممَّا يثير الحيرة والدهشة أن يتوانى المرء عن وصايا الأنبياء والإرشادات من سادة العقل والحكمة والتجارب ليجد نفسه في منحدر لا مناصّ منه، وفي مصير لا يرجوه حتَّى لعدوّه، فكيف لنفسه؟! فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تضيّعوا صلواتِكم، فإنَّ من ضَيَّعَ صلاته حُشِرَ مع قارون (الذي جَحَدَ فضل الله) وهامان (وزير فرعون)، وكان حقّاً على الله أن يُدخِلَه النار مع المنافقين، فالويلُ لمن لم يُحافظ على صلاته وأداء سنّة نبيّه"(3).
•أهميّة الصلاة في أوّل وقتها
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "تعاهدوا أمرَ الصلاة، وحافظوا عليها واستكثروا منها، وتقرَّبوا بها؛ فإنَّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً. ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سُئلوا: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ (المدّثر: 42-43)"(4).
لذلك، إنّ قضيّة حفظ الصلاة لا تحتمل أيّ إهمال، بل المطلوب الاهتمام بها، وبمقدّماتها وشرائط صحّتها، وتحرّي أوقاتها، وتقديمها على سائر الاهتمامات الأخرى، وبذل الجهد في سبيل تحقيق الحضور القلبيّ الممكن وإفراغ الوسع في ذلك، وهذا لعمري أمرٌ مقدورٌ ومُتيسّر. وإنَّ من أبرز مصاديق الاهتمام بالصلاة هو الحرص على أوّل وقتها، عبر تكييف البرنامج اليوميّ والحياتيّ بشكلٍ يُمكّن من تحقيق الامتثال الأتمّ لها، دون أن يتنافى ذلك مع قضايا المرء الحياتيّة وسعيه وراء مصادر الرزق واجتماع الأهل والصُّحبة، وغيرها من العناوين، بل المطلوب تقديم الصلاة على مشاغل الحياة، لأنّ ذلك يفتح له سبيل الجنّة وبياض الوجه، فيأتي وكتابُه بيمينه. في رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لأصحابه: "تدرون ما قال ربُّكم؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلم. قال: إنَّ ربَّكم يقول: إنَّ هذه الصّلوات الخمس المفروضات، مَنْ صلّاهنّ لوقتهنَّ وحافظ عليهنّ لَقِيَني يوم القيامة وله عندي عهدٌ أُدْخِلُه به الجنَّة"(5).
وإنّ للصلاة في أول الوقت خصائص ومزايا، نذكر بعضاً منها:
1. أحَبُّ الأعمال إلى الله: إنَّ الصلاة لوقتها هي معيار التديُّن الظاهريّ، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "خصلتان من كانتا فيه وإلّا فأعزب ثمّ أعزب ثمّ أعزب. قيل: وما هما؟ قال: الصلاة في مواقيتها، والمواظبة عليها، والمواساة"(6)، بل هي أولى المحامد وأحَبُّ الأعمال إلى الله، فعن ابن مسعود قال: "سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّ الأعمال أَحَبُّ إلى الله عزّ وجلّ؟ قال: الصلاة لوقتها. قلت: ثمّ أيُّ شيء؟ قال: برُّ الوالدين. قلتُ: ثمَّ أيُّ شيء؟ قال: الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ"(7).
2. عنوان التشيُّع: تذكر بعض الروايات أنّ الصلاة في أوّل وقتها هي علامة التشيُّع، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة، كيف محافظتُهم عليها..."(8).
3. الصلاة المُشرقة: لمَّا كَتَبَ اللهُ الصلاة وجَعَلها خمساً، حدّد لها أوقاتاً لا تخرجُ عنها، فلا يصحّ الاستعجال وإتيانُها قبل وقتها، ولا يجوز تأخيرُها وإخراجُها عن وقت أدائها. وقد أولى اللهُ تعالى الإتيان بالصلاة في أوّل وقتها وعدم تأخيرها اهتماماً بالغاً، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ (المؤمنون: 103)، وعُدّ عدم مراعاة وقت الفريضة تضييعاً. في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنَّ الصلاة إذا ارتفعت في أوّل وقتها رَجَعتْ إلى صاحبها بيضاء مشرقة، تقول: حفظتني حفظك اللهُ، وإذا ارتفعتْ في غير وقتها بغير حدودها رجعتْ إلى صاحبها وهي سوداء مظلمة، تقول: ضيَّعتني ضيَّعك الله"(9).
4. تُرعِبُ إبليس: فلْيُشْفِقْ المرء على نفسه، وليُبادرْ إلى ما يُنجيه ولا يَنْشغِل بما يُرديه، ولشدّة تأثير الحفاظ على الصلاة قوّة وأثر إيماني، حتّى أنَّ إبليس يُصاب بالهلع ممّن يُحافظ على صلواته، ويتهيَّبُ مواجهته ويُبْعِدُه مُرتدّاً عن الطّمع بالنَّيْلِ منه والظَّفَرِ بشيء منه. فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يزال الشيطان هائباً لابن آدم، ذعراً منه، ما صلَّى الصّلواتِ الخمس لوقتهنّ، فإذا ضَيَّعَهُنَّ اجترأ عليه فأدْخَلَهُ في العظائم"(10).
•إدراك وقت الفضيلة
إنّ في إدراك الصلاة في أوّل وقتها فائدةً عظمى، وهي إدراك وقت فضيلتها، وقد بيّنت الكُتب الفقهيّة فضل هذا الوقت، واستحباب أداء الصلاة فيه فريضةً كانت أو نافلة، وبيّنت مواقيت الفضيلة لكلّ صلاة، وهو وقتٌ قصير، يمرّ خطفاً، لكنّ فضله عظيم، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "فضل الوقت الأوّل على الأخير، كفضل الآخرة على الدنيا"(11).
كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أول الوقت رضوان الله، وآخر الوقت عفو الله"(12). ويمكن إدراك هذه الفضيلة "بالاشتغال في أول الوقت بمقدمات الصلاة، كالوضوء مثلاً، أو انتظار الصلاة، والتطلع إلى وقتها بشوق واستعداد. كما روي أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتظر دخول وقت الصلاة، ويقول: "أرحنا بها يا بلال"؛ أي أدخل علينا الراحة بالإعلام بدخول وقت الصلاة"(13). والحرص على هذا الوقت يُثمر حبّاً وحرصاً على الصلاة بوصفها صلةً بالباري عزّ وجل؛ لأنّ فيه امتثالاً بالانصراف عن شؤون الدنيا والتوجه بكلّ الكيان لله تعالى، إذا ما ارتفع نداء "الله أكبر". ولمعرفة وقت الفضيلة لكلّ فريضة، يمكن مراجعة كتب الرسائل العمليّة.
•فوائد الصلاة أوّل الوقت
يقول الشيخ بهجت قدس سره: "إذا اهتمّ المصلي بالصلاة، وتقيّد في أدائها في أوّل وقتها، فإنّ هذا العمل في حدّ ذاته له آثارٌ كثيرة، حتّى وإن لم يصلّها بحضور قلب، فثمّة سرٌّ عظيمٌ في أوّل الوقت وثمّة فرقٌ بين ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ﴾ (البقرة: 238) وبين ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾ (النساء: 77)"(14). ومن هذه الفوائد الإيجابيّة على المرء دنيويّاً وأخرويّاً، أنّ الصلاة في أوّل وقتها:
1. تمكّن صاحبها من إحراز معنى العبوديّة لله سبحانه وتعالى والتّوحيد له.
2. تُعينه على تحقيق انتظام حياته، التي تبدأ من انتظام صلته بالله، وتوجيهها في طريق الصلاح.
3. تكون بمثابة البوصلة الهادية التي ترشده إلى الطاعة الدائمة.
4. تفي لمن يفي لها وتنجيه وتخلّصه، حتّى من تبعات الخطايا والذنوب، "وإنَّها لَتَحُتُّ الذنوبَ حَتَّ الورق، وتُطْلِقُها إطلاق الرَّبْقِ"(15).
5. تكون حصناً لوقت أداء الصلاة والحفاظ عليها، وعدم ترك الملهيات الدنيوية كمبررات لتضييع الصلاة، أو قضائها.
6. تؤدي إلى استقامة أمور الدنيا، التي تبدأ من استقامة الصلاة.
7. تؤدي إلى حسن الارتباط بصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي يكون أوّل ممتثلٍ لأذان الصلاة.
8. تعلّم المبادرة الفوريّة لطاعة الله.
9. معينة لأداء صلاة الفجر في وقتها؛ لأنّ من كان ديدنه الصلاة أوّل الوقت، فسيحرص على عدم فوات فريضة الفجر ويعتاد الاستيقاظ لأدائها (16).
•أوّل الوقت موعد الأولياء
هكذا كان علماؤنا كالإمام الخمينيّ قدس سره الذي ترك لقاء مبعوث غورباتشوف لأجل الصّلاة، وهكذا هو الإمام الخامنئيّ دام ظله الذي يُرتّب نشاطاته، وجميع مشاغله، بحيث تكون الصّلاة في وقتها وهو إمام جماعتها، وشاهد العالم كيف طلب آية الله السيّد إبراهيم رئيسيّ (رئيس الجمهوريّة الإسلاميّة) وقت استراحة للصلاة في وقتها أثناء انعقاد مؤتمر صحافيّ. وهذه هي سيرة أولياء الله من سادتِنا وعلمائنا وقادة الجهاد، بل هكذا كان الشهداء والمجاهدون الذين كانوا إذا اعترض عَمَلَهم ما قد يوجب تأخير الصلاة، يبقون مستيقظين حتّى لا تفوتهم صلاة الصّبح، وليؤدّوها في وقتها، وبهذا انتصروا وأثبتوا بحقّ أنّهم رجال الله.
1.الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 270.
2.تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج2، ص 237.
3.عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج2، ص35.
4.نهج البلاغة، ج 2، ص 178.
5.من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج1، ص208.
6.الخصال، الشيخ الصدوق، ص 47.
7.المصدر نفسه، ص 163.
8.المصدر نفسه، ص 103.
9.الكافي، مصدر سابق، ج 3، ص 268.
10.الأمالي، الشيخ الصّدوق، ص 572.
11.ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ج1، ص 58.
12.مفتاح الفلاح، الشيخ البهائي، ص 141.
13.المصدر نفسه، ص 141.
14.في مدرسة الشيخ بهجت قدس سره، ج1، ص142.
15.نهج البلاغة، ج 2، ص 178.
16.يجيب الشيخ بهجت قدس سره عن سؤال: كيف يمكنني القيام لأداء صلاة الفجر في وقتها؟ ج: من يصلِّ بقية الصلوات في أول وقتها، يوفقه الله للنهوض من نومه لصلاة الفجر. مكتب الشيخ بهجت قدس سره، سؤال وجواب.