الشيخ إبراهيم السباعي
إن للروح التي يحملها الإنسان بين جنبيه تنقلات كثيرة، وسوف تمرّ بمراحل عديدة، حيث إنّ الروح تبقى تائهة تبحث عن مستقرّ لها ومكان يهدّئ من روعها، لأنها لن تهدأ أو تستقرّ أو تطمئنّ إلّا عند خالقها سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 27 – 30).
*قبل انفصال الروح
بما أن الروح لها مسار قد رُسم لها من قبل الخالق جلّ وعلا، فهي تمرّ ضمن مراحل أوّلها عالم الذرّ مروراً برحم الأم وعالم الدنيا، لتصل إلى مرحلة الموت الحتميّ وتحرّر الروح من الجسد الذي عبّر عنه سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ (الروم: 40).
ولن تكون هذه نهاية الروح، بل سوف تنطلق بعد الموت إلى عالم البرزخ، ثم بعد البرزخ يأتي عالم البعث والنشر والحشر والموقف والحساب والميزان والصراط والقناطر والجنة والنار.
نعم، نحن في هذه العجالة لا يسعنا الحديث إلّا عن واحد من تلك العوالم وهو الموت، والموت يحمل في داخله مراحل ومحطّات جديرة بالاهتمام بها، صحيح أنّنا عندما نرى أحدنا يحتضر وفي لحظات الموت، وحين تتوفّاه الملائكة نقول عنه مات، إلّا أنه قبل انفصال الروح عن الجسد، حصل له ومعه أشياء لا يعلمها إلّا الله سبحانه وتعالى، وقد أُخبرنا عن بعضها في القرآن الكريم، وورد بعضها الآخر في الحديث الشريف.
*الاحتضار
- الاحتضار: حضور الملائكة ساعة إغلاق كتاب الأعمال.
- النزع: عندما تبدأ عملية إخراج الروح ونزعها من الجسد.
- سكرات الموت: عند عملية النزع تبدأ الآلام، مع كل نزعة سكرة حتى تمام الخروج.
- غمرات الموت: أي سكرات الموت، لكن الغمرة تكون للكافر حيث فيها من الآلام والعذاب الكثير، وأما المؤمن فله السكرة والنزعة بهدوء وسكينة.
إذاً، كلمة الاحتضار تحكي قصة حضور الملائكة عند الإنسان ساعة الموت، وأحياناً يطلق على مجموع مراحل رؤية الملائكة وتكلّمهم مع المحتضر وصولاً إلى خروج الروح بالموت.
قال تعالى: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 133).
وقال تعالى عن حضور الملائكة:
﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ (النساء: 18).
*لماذا الاحتضار؟
الاحتضار، ضروري لكل إنسان لأنه من مقدّمات الموت. والموت حاجة للإنسان ملحّة، لأن الدنيا كانت سجناً للنفس المطمئنة، ولن ترتاح حتى تعود النفس إلى خالقها، وتنحصر عودتها بالموت ولا يتحقق الموت إلّا بحضور الملائكة، فخروج الروح من الجسد يحتاج إلى إذن خاص، ويتكرّر الإذن عند تكرّر العملية.
وللملائكة عمل آخر، وهو الإشراف على عملية تذوّق الموت وخروج الروح من الجسد، وهذه العملية تتم بإشراف من الملائكة الموكلة، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ (العنكبوت: 57).
نعم، بالتذوّق واستطعام الإنسان سكرات الموت الواحدة تلو الأخرى ينتهي به الأمر إلى الموت، حيث سيدخل في جسد بديل يختلف عن الأول شكلاً ومضموناً، هناك الجسدُ النورانيّ لا شهوات تحرّكه ولا شيء من متعلّقات الدنيا.
ولا ينحصر عمل حضور الملائكة في إخراج الروح خاصة، بل يتعدّاها إلى تقرير المصير، حيث إنّ الكتاب الذي يُعطى من الكَتبة إن كان أسود فمصيره للنار وإن كان أبيض فذلك إلى الجنة.
ولتوكيد المصير ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "ما من أحد يحضره الموت إلّا وكّل به إبليس من شياطينه، من يأمره بالكفر ويشكّكه في دينه، حتى تخرج نفسه، فمن كان مؤمناً لم يقدر عليه، فإذا حضرتم موتاكم، فلقّنوهم شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله، حتى يموت"(1).
وفي رواية أخرى، قال عليه السلام : "فلقّنه كلمات الفرج وسمّ له الإقرار بالأئمة واحداً بعد واحد، حتى ينقطع عنه الكلام"(2).
نعم، ليعرف كل واحد منّا إلى ما سيؤول إليه عند الاحتضار وساعة النزع لأنّ الأعمال بخواتيمها.
*علامات الاحتضار
كثيراً ما نشاهد في حياتنا أناساً يُشيّعون أو يدفنون وغير ذلك، لكن هل يا تُرى شاهدنا إنساناً يحتضر؟ أو مريضاً على فراش موته ينتظر؟ أو يكابد سكرات الموت؟ أو دخل في غمرات الموت؟ ولم يتبقّ له من الدنيا سوى لحظات أو دقائق.
الجواب: نعم، القليل من شاهد، والمهم هنا معرفة كيفية حال المحتضر وما هو عليه حينذاك.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "إذا رأيت المؤمن قد شخص ببصره، وسالت عينه اليسرى، ورشح جبينه، وتقلّصت شفتاه، وانتشر منخراه، فأي ذلك رأيت فحسبك به"(3).
*بداية الاحتضار
قال تعالى عن بداية الاحتضار:
﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ (ق: 19).
ففي اللحظة التي يرى فيها الإنسان الملائكة يكون قد انكشف عنه الغطاء، وأصبح بصره حديداً. وتكون قد بدأت سكرات الموت وهذه بدايتها. نعم، بدأت لحظة اللاعودة إلى الدنيا بالطبع إلّا أن يشاء الله تعالى.
تنكشف عند المحتضر أمور لم يكن يراها من قبل، ويشعر بأمور لم يكن يشعر بها، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (ق: 22).
نعم كل شيء أصبح لك واضحاً وبإمكانك رؤيته ومشاهدته بدون تكلّف أو عناء، لأن بصرك صار حديداً، ولأنك انتقلت من عالم البصر إلى عالم البصيرة، ولم يعد أمامك حدود أو قيود.
*أفواج الملائكة
لكل إنسان ملائكة تواكبه في مسيرة حياته الدنيوية بعضهم كتَبَة وبعضهم حفَظَة وبعضهم لأمور لا يعلمها إلّا الله سبحانه وتعالى، إلّا أنّ القاسم المشترك بينها أن لكل إنسان ستةً من الملائكة اثنان كتبة وأربعة لمسير حياة الإنسان.
أما الكتبة فهم يكتبون ما نقول وينسخون ما نفعل بالصوت والصورة، قال تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق: 17 – 18).
وقال تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الجاثية: 29).
وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : "اعلموا عباد الله أن عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليلٍ داج، ولا يكنكم منهم باب ذو رتاج، وإنّ غداً من اليوم قريب"(4).
وفي أول لقاء مع الكِرام الكاتبين وبدون مقدّمات يبلغونه الأمر الإلهي: يا عبد الله كنا ننسخ ما كنت تعمل، ونكتب ما كنت تفعل واليوم بلغنا من الأعلى أن نغلق كتابك، ونتوقف عن النسخ والكتابة، ويعني ذلك أنك توقفت عن الحياة ولم تعد من الأحياء، فخذ كتابك واستعد للسؤال، هنا يسكر المحتضر ولا يعود يفهم شيئاً لأنه مندهش، يرتعب مما يرى ويسمع.
*الملائكة الموكلة بالعبد
إن أول ما يخسر العبد إذا وقع في النزع: يحبس عليه لسانه وآخر ما يتركه سمعه، عندها يدخل عليه أربعة من الملائكة كانت موكلة بطعامه وشرابه وأنفاسه وآجاله، وكل واحد منهم يبلغه ما هو عليه وما هو آيل إليه،
فملاك الطعام يقول له: فتَّشتُ لك الدنيا شرقاً وغرباً على أن آتيك بلقمة تأكلها فما وجدت فقد سقطت ورقة أيامك والموت حلّ ببابك.
وثم يدخل الثاني، فيقول: أنا موكل بشرابك من الماء وغيره، طلبت في الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت لك شربة من الماء حتى دخلت الساعة.
ثم يدخل الثالث، فيقول: أنا الموكل بأنفاسك، طلبت في الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت لك نفساً واحداً من أنفاسك.
ثم يدخل الرابع، فيقول: أنا الملك الموكل بآجالك وأعمالك طلبت الأرض شرقاً وغرباً فما وجدت لك أجلاً حتى دخلت الساعة.
*ملاك الموت مسك الختام
عندما تنتهي مشاهدات صور الموت ولقاءات الكَتَبة وحوارات الملائكة تأتي ساعة النهاية – الصفر – وهي حضور ملاك الموت العظيم عزرائيل عليه السلام مع أعوانه لتبدأ الملائكة الموكلة بتجهيز عملية الفصل والقطع لجميع اتصالات المحتضر بالحياة وكل روابطه بالدنيا ليصبح جاهزاً للموت.
قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (السجدة: 11).
وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ...﴾ (الأعراف: 37).
*خلاصة
الموت عبارة تحمل في طيّاتها حوارات ولقاءات ومشاهدات، والاحتضار يبدأ بحضور الملائكة وينتهي بختم ملك الموت، وما بينهما العجب العجاب حيث تختلف الأمور من معاملة وتصرف بين المؤمن والكافر فتختلف الطريقة والأسلوب والعملية معقدة والاستعداد والتهيّؤ لهذه الأمور ضروري فالموت حتمي والاحتضار حتمي ومشاهدة الملائكة والسؤال عن الأعمال والكتاب حتمي وبيدك أيها الإنسان إما أن تكون من الطيبين الذين قال تعالى عنهم: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 32).
وإما من هؤلاء الذين قال عنهم تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ﴾ (النساء: 97).
Algérie
achi.mahdi
2015-06-24 03:07:00
السلام عليكم انا مهدي من الجزائر شكرا علي هذي المعلومات القيمة