تحقيق: غسان قانصوه
28 آب ذكرى انتصار المقاومة في التحرير الثاني
"كنّا نقف عند الطريق خارج المستشفى ننتظر وصول الجرحى فنتلقّاهم فوراً لإسعافهم. وعند استقبال الشهداء، كنّا جميعاً، أطبّاء وموظّفين، نتأثّر بهذا المشهد، فنبكي بكلّ حواسنا، مع أنّنا كنّا لا نعرفهم!".
هي مشاهدات لا تقف عند حدود دموع ومشاعر يرويها أحد الأطباء عند استقبال الجرحى والشهداء خلال معركة تحرير السلسلة الشرقيّة. فكيف تحضّرت بعض المستشفيات لاستقبال الجرحى والشهداء؟ وما هي أبرز المواقف والمشاهدات المؤثّرة التي وقعت تحت أنظار الأطبّاء في تلك الفترة؟ هو ما سنستعرضه في هذا التحقيق.
* "وإن عدتم عدنا"
في فجر الثامن من شهر تمّوز من العام 2017م، أطلقت المقاومة الإسلاميّة عمليّة "وإن عدتم عدنا" لتحرير جرود السلسلة الشرقيّة في البقاع الشمالي من الجماعات الإرهابيّة التكفيريّة. وبطبيعة الحال قبل كلّ معركة، لا بدّ من تحضيرات لوجستيّة على الخطوط الخلفيّة، خصوصاً في المجال الصحّيّ، فكانت مستشفيات البقاع الشماليّ على أهبة الاستعداد لاستقبال الحالات الطارئة، مستنفرة أجهزتها الطبيّة والتمريضيّة قبل انطلاق العمليّة.
ولوجودها على خطّ تماس العمليّة العسكريّة، استنفرت إدارتا مستشفيي دار الحكمة في بعلبك، والبتول عليها السلام في الهرمل، التابعين للهيئة الصحيّة الإسلاميّة، الطواقم الطبيّة والصحيّة كافّة لاستقبال الشهداء والجرحى والمصابين، وعملت كخليّة نحل على مدار الساعة، وبالإمكانات المتاحة.
* جهوزيّة تامّة
يروي مدير مستشفى البتول عليها السلام الحاج علي شاهين تفاصيل كثيرة عن تلك الأيّام، ويشير إلى أنّ المستشفى كان مستعدّاً منذ بداية المعارك في مدينة القصير وقرى ريفها وحتّى استكمال التحرير الثاني عام 2017م، وكان حاضراً لاستقبال أعداد كبيرة من الجرحى والشهداء، من خلال تطبيق خطّة الجهوزيّة بكلّ تفاصيلها من مبدأ الفرز الطبّي (triage)، إلى تجهيز خمس غرف طوارئ جديدة في قسم العيادات، مضافاً إلى قسم العناية المجهّز بأربعة أسرّة.
* كخليّة نحل
أضاف شاهين: "استطاع المستشفى استقبال عدد كبير من الجرحى والمصابين في أقسامه كافّة، بدءاً من قسم الطوارئ والمختبر والتصوير الشعاعيّ والطبقيّ المحوريّ والصوتيّ، وصولاً إلى أقسام العمليّات الجراحيّة والاستشفاء والأسنان، والمتابعة اليوميّة كتغيير ضمّادات الجرح والمراجعة. وكذلك كان المستشفى نشطاً في عمليّات الدخول والمغادرة والتحويل إلى مستشفى آخر".
* إرادة صلبة
في هذا الإطار، يتذكّر الحاج علي شاهين جيّداً كيف كانت معنويات الأطبّاء والممرّضين المناوبين، الذين لم يكلّوا ولم يملّوا رغم التعب والإرهاق الذي كان بادياً عليهم، ويستحضر في ذاكرته اندفاعة الأطبّاء الاختصاصيّين الذين كانوا يحضرون من خارج البقاع. ويتحدّث شاهين عن معنويّات جرحى المقاومة الذين كان مستشفى البتول عليها السلام يستقبلهم، والذين كانوا -رغم جراحهم بمختلف مستوياتها- يتمتّعون بمعنويّات إيمانيّة عالية، وتجلّى ذلك في رغبتهم في العودة إلى ساحة الميدان فور استكمال علاجهم، ومنهم من عاد فعلاً إلى الجبهة في وقت لاحق رغم عدم تعافي جراحه بشكل كامل. كما لا تقلّ معنويّات الجرحى عن معنويّات ذويهم وعوائل الشهداء الذين كانوا ينطلقون في تشييع جثامين أبنائهم من المستشفى إلى جوار من سبقهم من الشهداء الأبرار.
ويضيف: "أمّا أهل المقاومة، فقد كانوا يملؤون ساحات مستشفى البتول عليها السلام وأروقته منذ بدء معركة القصير، بانتظار أيّ نداء استغاثة للتبرّع بالدم للجرحى والمصابين".
* تضحيات لا تقدّر بثمن
وعن تلك المعنويّات والدروس والعبر التي كان يعطيها جرحى المقاومة الإسلاميّة وناسها، يتحدّث الطبيب المتخصّص في جراحة العظام والمفاصل د. فادي ناصر الدين، الذي كان حاضراً بشكلٍ دائم في مستشفى دار الحكمة في بعلبك خلال معارك تحرير الجرود، فيقول: "التقيت خلال المعركة بمجموعة كبيرة من الجرحى بجراحات مختلفة. وعلى الرغم من أنّه كان من بين تلك الإصابات حالات بتر للأطراف أو خسارة للأعضاء؛ إلّا أنّ القاسم المشترك بينهم جميعاً هو المعنويّات المرتفعة".
ويسرد د. ناصر الدين قصصاً مؤثّرةً عن هؤلاء الشباب، فيقول: "جاءني أحد الإخوة، والذي أعرفه جيّداً، بطرفين مبتورين بشكلٍ كامل مع بقايا من الجلد والشرايين والأوتار والأعصاب، فقمت بترميم الجروح وترتيب الطرفين المبتورين بشكلٍ جيّد حتّى يتسنّى لهذا الشابّ أن يضع لاحقاً أطرافاً صناعيّة، وتفاجأت بعد إجراء العمليّة أنّ هذا الأخ كان مبتسماً ويقول: "هذه الجراح هي قربة إلى الله تعالى، فأنا لم أقدّم شيئاً أمام ما قدّمه من استشهد، فيا ليتني استشهدت!". يتابع د. ناصر الدين: "بعدها، راجعني هذا الشابّ مرّات عدّة، وهو بالمناسبة، ينشد في المناسبات، وكان يؤكّد أنّه فداء لهذه المقاومة ومستعدّ للشهادة في سبيل الله، وكان يخفي ألمه خلف ابتسامته التي لم تفارق محيّاه".
* ارتياح كبير
قصّة أخرى يرويها د. ناصر الدين فيقول: "تعرّض أحد المجاهدين لإصابة بليغة، فأجرينا له عمليّة ترميم لأحد الأطراف، أمّا الطرف الآخر، فكان مبتوراً بشكلٍ جزئيّ، ومع ذلك، كان الشابّ حسن الخُلق، ويُظهر ارتياحاً كبيراً، وكان دائم التبسّم والشكر لله تعالى".
وأشار إلى أنّ الجميع في المستشفى كان مجنّداً لخدمة هؤلاء الشباب ومساعدتهم تمريضيّاً ونفسيّاً، وكان الفريق التمريضيّ يتعاطى معهم بكلّ ودّ ومحبّة واحترام. ويتابع: "كنّا نُفاجأ أنّهم هم من يعطينا الدعم النفسيّ. وفعلاً، كنّا نستمدّ منهم المعنويّات والطاقة التي تعيننا على الصمود ومواصلة العمل".
* دروس في التضحية والإيثار
ما هو موقف د. ناصر الدين من كلّ ما شاهده؟ يقول: "هؤلاء الشباب قدّموا لنا دروساً في الصبر، والأخلاق، والمعنويّات العالية، والبصيرة، والإيثار، والتضحية بأنفسهم فداءً لخطّ المقاومة".
وفي ما يتعلّق بالإيثار يقول: "صادفت في بعض الأحيان جراحات بليغة للغاية، ومع ذلك، فقد كان أصحابها يقدّمون إخوانهم الجرحى الآخرين على أنفسهم ويطلبون معالجتهم أوّلاً يا له من إيثار!".
* أمنية الشهادة
يستذكر د. ناصر الدين "جريحاً كان أخوه قد استشهد قبل مُدّة، فأجرينا له عمليّة، ووضعناه في غرفة العناية لأيّام وهو تحت تأثير التخدير. وعندما عاد إلى وعيه، بكى بكاءً شديداً لأنّه أراد أن يكون في عداد الشهداء ويلتحق بأخيه! لقد كان المشهد مؤثّراً جدّاً".
* بأخلاق إسلاميّة
يلفت د. ناصر الدين إلى أنّه كان من بين الجرحى الوافدين إلى قسم الطوارئ في المستشفى بعض الإرهابيّين الذين كانوا قد أصيبوا في المعارك، ومع ذلك، كان الفريق الطبّيّ يتعاطى معهم بإنسانيّة وأخلاق عالية، عملاً بتوصيات أهل البيت عليهم السلام.
* عملٌ متواصل
كان استعداد الفرق الطبيّة في أعلى درجاته، فطبيعة المعركة وضراوتها استدعت الاستنفار التامّ في سبيل تغطية كلّ أنواع الإصابات. يروي لنا نادر علي غصن، وهو مساعد جرّاح، عن صعوبات العمل في تلك الفترة، فيقول: "كنّا في مواكبة مستمرّة للجرحى منذ بداية الحرب على سوريا من العام 2013م حتّى 2019م، وتنقّلنا بين كثير من المناطق، من الجرود إلى الغوطة. كانت حدّة المعارك تتطلّب منّا البقاء في حالة تأهّب دائم ليلاً نهاراً، خصوصاً في قسم الطوارئ والعمليّات الجراحيّة؛ لأنّ الإصابات قد ترد إلينا في أيّ لحظة؛ لذلك، كنّا في عمل متواصل لا يعرف السكون. قد يحضر إليك جريح يلتقط أنفاسه الأخيرة، وعليك معرفة ما يلزم وبسرعة لربما لم ينقضِ عمره بعد، وقد حصل ذلك أكثر من مرة".
* أكثر المواقف صعوبةً
يتحدّث غصن عن أكثر المواقف تأثيراً، فيقول: "كان أحد الإخوة يقود سيّارة إسعاف ينقل إلينا أخاه وكان جريحاً، وما إن وصل حتى بدأ ينادينا لإسعافه، وما لبث بعد ندائه إلا قليلاً حتى اكتشف أنّ أخاه الجريح قد استشهد وهو في سيارة الإسعاف. بكى لوقت وجيز ثم توجّه مجدّداً إلى ميدان العمل ليسعف باقي الجرحى، لقد كان موقفه مذهلاً بالفعل بالنسبة إلينا!".
ويضيف: "صادفنا في إحدى المرّات حالة غريبة ونادرة؛ فقد أُحضر إلينا جريح قطعت يداه وساقه، فاعتقدنا للوهلة الأولى أنّه فقدها خلال المعركة. ولكن أثناء إسعافه، تبيّن أنّ هذا الجريح كان قد أصيب سابقاً خلال المعارك ضدّ العدوّ الصهيونيّ وبُترت حينها إحدى يديه وساقيه، فاستبدلهما بطرفين صناعيّين. وقد كان يواجه العدو التكفيري بيد وقدم واحدة، والآن قد بترت يده الثانية. لقد كان ذلك المجاهد نموذجاً فريداً من نوعه، ما زادنا عزماً وتصميماً على مواصلة العمل بدافعيّة أكبر".
* عمل متكامل
لا يسعنا في الختام إلّا أن نقدّر جهود كلّ الأطبّاء والمسعفين والممرّضين والفرق الطبيّة، شركاء الجهاد والانتصارات، على الجهود المضنية التي بذلوها ولا يزالون في كلّ محطّات عمل المقاومة. فألف تحيّة إلى تلك الأنامل الطيّبة الحنونة التي ضمّدت كلّ جراح وخفّفت من الآلام والمعاناة.