مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أداء التكليف من حُسن الولاية

الشيخ علي أبو ريّا


عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: وَاللَّهِ لَوْ فَلَقْتَ رُمَّانَةً بِنِصْفَيْنِ، فَقُلْتَ هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ، لَشَهِدْتُ أَنَّ الَّذِي قُلْتَ حَلَالٌ حَلَالٌ وَأَنَّ الَّذِي قُلْتَ حَرَامٌ حَرَامٌ، فَقَالَ: "رَحِمَكَ اللَّهُ رَحِمَكَ اللَّهُ"(1). وعَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْحَلَّالِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: "مَا أَحَدٌ أَدَّى إِلَيْنَا مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِينَا إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَعْفُورٍ"(2).

تقدّم هاتان الروايتان نموذجاً فريداً لمن أدرك كُنْه الولاية، وأذعن في أداء التكليف دون تردّد. من هنا، إنّ مسألة أداء التكليف وارتباطه بحسن الولاية تحتاج إلى قراءة عميقة في سيرة أولئك الأصحاب، الذين أعطوا نموذجاً عقائديّاً رائعاً في التزامهم بالتكليف، الذي ينمّ عن حُسن الولاية للإمام المعصوم عليه السلام.

* ما هو التكليف؟
هو الأوامر والنواهي الإلهيّة التي كلّفنا الله تعالى بها. والالتزام بالتكليف هو التزام بما يأمر الله تعالى به والانتهاء عمّا نهى عنه. وهو أعمّ من مسائل الشريعة (الحلال والحرام)؛ إذ قد تستجدّ مسألة في الحرب مثلاً، كتكليف الرماة في معركة أُحد بعدم مبارحة أماكنهم مهما كانت نتائج الحرب.

والتكليف قد نتبلّغه من المعصوم عليه السلام، وقد يشخّصه نائب المعصوم أيضاً، كالتكليف الذي يصدر عن الوليّ الفقيه مثلاً. لذلك، فإنّ الالتزام به يمثّل حُسن الولاية لمصدر التكليف.

* ما المقصود بحُسن الولاية؟
هو أن يُحسن المكلّف الطاعة والتسليم لمن أمر الله تعالى بطاعتهم، وذلك على أكمل وجه في الظروف كلّها، وفي السرّاء والضرّاء.

* ابن أبي يعفور الموالي المطيع
إنّ رواية ابن أبي يعفور تُظهر مدى حُسن الولاية للقائد الذي يمثّل الالتزامُ بتكاليفه التزاماً بالأمر الإلهيّ، وهذه النقطة هي المحور الأساسيّ في فهمنا للولاية. لذلك، عندما يأتي الأمر من الوليّ، فإنّ الالتزام بالتكليف إنّما هو التزام بالأمر الإلهيّ وطاعة لله تعالى، فليس ثمّة عَرَضيّة بين الطاعة للوليّ وبين طاعة الله تعالى، وإنّما هي طوليّة في طاعة الله تعالى، أي أنّ ولاية الوليّ مستمدّة من ولاية الله تعالى فقط، والمكلّف عندما يلتزم بطاعة الولي؛ إنّما يلتزم بطاعة الله سبحانه في الواقع. فضلاً عن ذلك، ثمّة تلازمٌ بين أداء التكليف وحُسن الولاية، فمن أحسن الولاية للوليّ، أدّى التكليف حتّى ولو كان شاقّاً مُكلِفاً على المستوى الشخصيّ، فلا يتذرّع ولا يتهرّب من أدائه، بل يعدّ ذلك جهاداً في سبيل الله وامتثالاً لأمره تبارك وتعالى، وهو يعلم علم اليقين أنّ ما يُكلّف به فيه المصلحة للإسلام والمسلمين، وفيه مصلحته في الدنيا والآخرة، وقبل كلّ شيء فيه رضى الله تعالى.

من هنا، فإنّ الطاعة والتسليم ركنان أساسيان في فهم الولاية وأداء التكليف، وعبد الله بن أبي يعفور، الذي هو من أصحاب وحواريّي الإمام الصادق عليه السلام، يؤكّد من خلال قوله هذا للإمام عليه السلام أنّه مطيع ومسَلّم دون حرج في ارتباطه مع إمام زمانه المفترض الطاعة.

* خصوصيّة الموالي المُطيع
لماذا أحسن ابن أبي يعفور الولاية بأداء التكليف على أكمل وجه؟ يُبيّن الإمام الصادق عليه السلام بعض الخصوصيّات التي تميّز بها ابن أبي يعفور، وتشمل كلّ موالٍ مطيع، ينتظر تشريفه بتكليف إلهيّ، فيسرع لأدائه طاعةً وتمثلاً للوليّ، حيث كَتَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام إِلَى الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ الْجُعْفِيِّ حِينَ مَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَعْفُورٍ: "يَا مُفَضَّلُ عَهِدْتُ إِلَيْكَ عَهْدِي كَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَمَضَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مُوفِياً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِهِ بِالْعَهْدِ الْمَعْهُودِ لِلَّهِ، وَقُبِضَ صَلَوَاتُ [اللَّهِ] عَلَى رُوحِهِ مَحْمُودَ الْأَثَرِ مَشْكُورَ السَّعْيِ مَغْفُوراً لَهُ مَرْحُوماً بِرِضَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِمَامِهِ عَنْهُ... مَا كَانَ فِي عَصْرِنَا أَحَدٌ أَطْوَعَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِهِ مِنْهُ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ وَصَيَّرَهُ إِلَى جَنَّتِهِ، مُسَاكِناً فِيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام، أَنْزَلَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْمَسْكَنَيْنِ مَسْكَنِ مُحَمَّدٍ وَأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا) وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَاكِنُ وَاحِدَةً وَالدَّرَجَاتُ وَاحِدَةً! فَزَادَهُ اللَّهُ رِضًى مِنْ عِنْدِهِ وَمَغْفِرَةً مِنْ فَضْلِهِ بِرِضَايَ عَنْهُ"(3).

* التكاليف المرتبطة بحسن الولاية
عندما نتحدّث عن أداء التكليف الذي يرتبط بحسن الولاية، لا نقصد بذلك التكاليف الشرعيّة المرتبطة بالعبادات كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها؛ لأنّ إلزامها مفروغٌ منه، وليس مورد امتحان، وإنّما نقصد التكاليف التي ترتبط بالأمور الاجتماعيّة والسياسيّة، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والدفاع عن الإسلام والمسلمين، والمواجهة والصراع في الساحات ضدّ أئمّة الكفر وخططهم ومشاريعهم.

لذلك، إنّ الامتحان الحقيقيّ في الالتزام بالتكليف الذي ينمّ عن حُسن الولاية لأهل الولاية، إنّما هو في مثل هذه الأمور والقرارات، التي تجعل المكلّف بين أمرين: إمّا الطاعة والتسليم، وإمّا التعذّر والهروب. وما حصل مع الإمام الحسن عليه السلام خير مثال على ذلك. فعندما التزم الإمام عليه السلام بالصلح مع معاوية، ظهرت في الأتباع طائفتان: طائفة أحسنت الولاية بالتزامها بما أمر به الإمام عليه السلام، وأخرى انحرفت وردّت على الإمام عليه السلام بمواقف تثير الدهشة.

في المقابل، نجد أنّ الأصحاب الذين تميّزوا في ولائهم للنبيّ ولأهل البيت عليهم السلام كانت ميزتهم الواضحة، والتي أكّد عليها أئمّتنا عليهم السلام، هي حُسن الولاية، قولاً وفعلاً. أمّا الذين سقطوا في عاقبتهم، فهم أولئك الذين لم يحسنوا الولاية فعلاً وعملاً، فكانت بالنسبة إليهم مجرّد ارتباط سطحيّ بعيداً عن الإذعان للتكليف، فتذرّعوا -لعدم امتثالهم للتكليف الإلهيّ الذي أُمروا به من قِبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام بحجج واهية.

* حُسن الولاية: أداء حقّ الولي
إنّ المثال الذي ذكره ابن أبي يعفور يؤكّد مدى استعداده الالتزام بالتكليف حتّى ولو كان مثل الرمّانة، التي يُفترض بداهةً أن يكون حكمها واحداً من جهة الحلّيّة والحرمة، فهو يصرّح للإمام الصادق عليه السلام بمدى إيمانه واعتقاده بما يقوله.

ثمّ إنّ الرواية الثانية تبيّن أنّ الإمام عليه السلام قدّر لابن أبي يعفور هذا الولاء، وميّزه به عن غيره، مشيراً إلى أنّه يريد مثل هذه النماذج من الموالين المؤمنين بالإمام المعصوم المفترض الطاعة، وذلك بقوله: "مَا أَحَدٌ أَدَّى إِلَيْنَا مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِينَا إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَعْفُورٍ". والشاهد قوله عليه السلام: "أدّى إلينا ما افترض الله عليه فينا"؛ فالسّرّ في حُسن الولاية وأداء التكليف. وهذا ما يلزم أن نعمل له في واقعنا الحاضر، فإذا طُبّقت هذه الخصوصيّة في ولايتنا للوليّ الفقيه في زماننا هذا، نكون قد أحسنّا الولاء الذي تترتّب عليه البركات والآثار الطيّبة التي وعد الله عزّ وجلّ بها عباده المؤمنين.

* من هو القائد والوليّ الفعليّ؟
إنّ القائد والوليّ هو القائد الفعليّ والحيّ الذي يُصدر الأوامر ويحدّد المصلحة العليا. ولذلك يلزم الانتباه إلى أنّ ولايتنا لأهل البيت عليهم السلام فيها شقّ عمليّ ينمّ عن حُسن إدارتهم وتشخيصهم للمصالح العليا للإسلام والمسلمين، وهذا الشقّ العمليّ يمتدّ ليشمل دور الوليّ الفقيه الحيّ الموجود الذي يمارس صلاحيّاته ويحدّد الأولويّات، وهنا النقطة المحوريّة التي تعبّر عن حُسن الولاية في أداء التكليف.

* سعد بن معاذ: لو خضت البحر لخضناه معك
ثمّة نماذج كثيرة أخرى في التاريخ تقدّم أروع درس في الالتزام بالتكليف مهما كانت المشقّات، فها هو سعد بن معاذ وقد قال جواباً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي استشار الأنصار في الخروج إلى المشركين في معركة بدر: "لقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحقّ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غداً..." فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد، ونشّطه ذلك، ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "سيروا وأبشروا، فإنّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين"(4).

* رشيد الهجري: ولايةٌ حدّ الشهادة
في زمن أمير المؤمنين عليه السلام تجد نماذج آثرت المشقّة والسجن والقتل على أن تبقى ضمن التكليف الذي رسمه لها الإمام عليه السلام. فقد حدّثَ عليه السلام يوماً رشيداً الهجري بكيفيّة قتله على يد جلاوزة السلطة الأمويّة الغاصبة: "كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيُّ بني أُميّة، فقطع يديك ورجليك ولسانك؟ قال: أيكون آخر ذلك إلى الجنّة؟ قال عليه السلام: نعم يا رشيد، وأنت معي في الدُّنيا والآخرة"(5).

وكذلك الأمر في زمن الإمام الحسين عليه السلام، إذ كان أصحابه عليه السلام مدرسة رائدة في الوفاء والالتزام بالتكليف حتّى قتلوا وقطّعوا (رضوان الله عليهم).


(1) الشيخ الطوسي، رجال الكشي، ج 2، ص 518.
(2) المصدر نفسه، ج 2، ص 519.
(3) المصدر نفسه، ج 2، ص 518.
(4) ابن هشام، السيرة النبويّة، ج 2، ص 448.
(5) الشيخ الطوسي، الأمالي، ص 165.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع