مع الإمام الخامنئي | لا تنبهروا بقوّة العدوّ* نور روح الله | لو اجتمع المسلمون في وجه الصهاينة* كيف تكون البيعة للإمام عند ظهـوره؟* أخلاقنا | كونوا مع الصادقين* الشهيد على طريق القدس عبّاس حسين ضاهر تسابيح جراح | إصابتان لن تكسرا إرادتي(1) على طريق القدس | «اقرأ وتصدّق» مشهد المعصومة عليها السلام قلبُ قـمّ النابض مجتمع | حقيبتي أثقل منّي صحة وحياة | لكي لا يرعبهم جدار الصوت

تسابيح جراح: بالصبر أواجه جراحي

 

لقاء مع الجريح المجاهد حسن محمد المشورب (أبو عبد الله)
حنان الموسويّ

 

دارت الاشتباكات بين طبقَتَي المبنى الأولى والثانية، والمسافة القريبة بين طرفَي النيران تُنبئ بضراوة المعركة. غزارة القصف التي جعلت أسس المبنى هشّة، روت سنين تعطّشهم لفنائنا، وذاك الحائط الذي اتّخذته ساتراً رأيته يتناثر أمامي، بفعل قنبلة اخترقته وانتشرت شظاياها حتى أصابت جسدي وبترت بفعل قوّتها قدمي.

* نشأةٌ بين خطوط التماس
نشأت في قرية أمّي "كونين" بعد أن غادرنا محلّة "برج حمود" مع بداية الحرب الأهليّة في العام 1975م. براعم عمري تفتّحت بين كرٍّ وفرٍّ من بيروت وإليها، بعد أن بدأ القصف الإسرائيليّ على القرى الجنوبيّة كافّة؛ لذا، هجرنا موطن الأحباب لنسكن عند خطوط التماس الموسومة بالموت، في محلّة "الخندق الغميق" التي خلَت حتّى من الظلال، إذ لا سكّان يعمُرونها، وقد شهدت موت العديد من الناس. وما زالت تلك الذكريات تعبر مخيّلتي بالألم. مشاهد اليتم والقنص والظلم كانت الدافع الأساسيّ لانخراطي في العمل الجهاديّ فيما بعد، عندما هلّت بشائر الثورة الإسلاميّة في إيران ولاحت معالمها.

تبلور الخطّ الملتزم وتشكّلت نواة حزب الله. كنت وأحد إخوتي وبعض الأقارب والرفاق نقوم بالتدريبات والرماية في القرية، كنّا نرمي ببندقيّة واحدة لشحّ التجهيزات والعتاد، وانتقلنا لاحقاً إلى خطّ الساحل مع دخول العدوّ الإسرائيليّ. لم يكن العمل قد انتظم بشكلٍ متطوّرٍ بعد، فكم نفّذنا عمليّات جهاديّة بطرقٍ بدائيّة، ولطالما حملنا القنابل بأيدينا، أو خبّأنا بعض السلاح البسيط في أماكن معيّنة، وغالباً ما كنّا نشتبك مع العملاء، وخلاصة الاشتباكات إصابتان في كتفي.

* آيةُ اليقين
هي حادثةٌ تزمجر في ذاكرتي كلّما سطع حنيني إلى أخي "أحمد"، يقينه المطلق وتفويضه الأمر للخالق في خضمّ الخطر، يمنحانني حتّى اللحظة طمأنينة وسكينة، بأنّ الله محيطٌ بنا ومدافعٌ عنا.

أذكر أنّه تقرّر نقل الحمولة نهاراً، وإذ بحاجز تفتيشٍ للعملاء عند نقطة الزهراني، لا يترك صغيرة أو كبيرة إلا قلب عاليها سافلها؛ ليعثر على ضالّته. ردّدنا آية "السدّ" قبل العبور، وتوكّلنا على الله. معجزةٌ تجلّت واقعاً إذ غطّت الغشاوة عيونهم، حين فتّشوا سيارة "البيك أب" ولم يرَوا السلاح، وتمّت عملية نقله بنجاح. حفرنا بستاناً، وأخفينا السلاح بعد تغليفه في التراب، إلّا أني أحسست بحركةٍ غريبةٍ لم يطمئنّ لها قلبي، نقلت لأخي شعوري، لكنّه طمأنني بأنّ الأمور تحت السيطرة. أسبوعٌ مرّ وإذ بالصهاينة مدجّجين بالأسلحة والعتاد، معهم كلابٌ مدرّبة وكاشفات معادن، وقد قاموا بحفر البستان شبراً شبراً. هيأت نفسي للمواجهة، لكنّ علامات الخيبة التي ارتسمت على وجوه العملاء والجنود الإسرائيليين أوحت لي بأن لا ضرورة، رغم مفاجأتي باختفاء السلاح، وعند سؤالي أخي عن ذلك أخبرني أنهم غيّروا مكان السلاح قبل أيامٍ، وقد تكرّر هذا العمل مراتٍ ومراتٍ خلال عمليات نقل السلاح من وإلى الجنوب.

* هجومٌ مباغت
تغيّرت طبيعة العمل الجهاديّ قليلاً، فانتقلت إلى "كونين"، لكن عند تفرّغي للالتزام بالعمل الجديد، عاودت أدراجي للمتابعة في مركز "الأنطونيّة" عند خطوط التماس في بيروت، وتوزّع العمل الدفاعيّ بينها وبين الجنوب.

حركة المسلّحين لم تكن عاديّة. توقّعنا هجوماً شرساً دون معرفة ميقاته. حاولوا التسلّل بشكلٍ مباغتٍ، فأحبطنا خطّتهم وبدأ الاشتباك. وكان النزال في أوْجه حين اخترقت إحدى القذائف الحائط الذي اتّخذت منه ساتراً وانفجرت أمامي، حتّى انتشرت شظاياها في جسدي، لكنّ إصابتي البالغة كانت في القدم اليُمنى، حيث بُتِرت جلّ أصابعها وبقي جزءٌ صغير من الكعب الذي أذابته حرارة القذيفة. عندما حاول الإخوة سحبي، اخترت القفز على قدمٍ واحدة دون الاكتراث لجرحي. معنويّاتي العالية أنستني الألم، وساعدتني على سحب بندقيّتين للمسلّحين، وبقيَ الهاجس أن أسحب القاذف والسلاح الفرديّ بعيداً عن منطقة الاشتباك، وحين حقّقت مرامي نقلوني إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة.

* جرحٌ وصبر
طال مكوثي في مدخل المستشفى بسبب امتلاء قسم الطوارئ بالمصابين، فالهجوم كان واسعاً شمل منطقة بيروت بأكملها، ما تسبّب بسقوط الكثير من القتلى والجرحى. انتظرت طويلاً ريثما بدأ الأطبّاء بتضميد جراحي، خاصّة جرح قدمي الذي كان يصعب ترميمه، فكان قرارهم بتر القدم بمحاذاة الكاحل ما يسهمُ في المحافظة على شكلها نوعاً ما، بهدف مداراتي نفسيّاً.

تقبّل الأهل الخبر بافتخار. ردّة فعلهم كانت طبيعيّة جدّاً، فعائلتنا المقاومة تتقبّل العسير وتقدّم الأنفس فداءً للحقّ. همّت دموع أخي بالنزول، في الخفاء حين رأى إصابتي، شدّ عضدي بمعنويّاتٍ عالية، وساندني بقوّةٍ طيلة فترة مكوثي في المستشفى. تكررت زيارات والدتي لي، وقفت بجانبي في مراحل الألم، سلّمتني لله وما تذمّرت، رغم تبعات الإصابة من جراحاتٍ ووجع. كان النظر إلى أمّي، تلك المرأة القويّة التي آزرتني في أحلك الظروف، يُنسيني الهمّ والأسى.

كسبت مودة الجميع في المستشفى، واحترامهم، بالصبر والتعامل السلس، رغم آلامي الحادّة خصوصاً عند عنايتهم بالجرح، واضطرارهم إلى الضغط عليه أثناء تنظيفه لإخراج بقايا البارود والأوساخ. حاول الأطبّاء مراعاة أدنى مستوىً للبتر لكنّ الأمر لم ينجح، لذا، وبعد مرور خمسة وعشرين يوماً، اضطرّوا إلى بتر المزيد من قدمي، عندها خفّت الأوجاع بشكلٍ تدريجيٍّ، وتعايشت مع الوضع الجديد بشكلٍ أفضل.

لم تنجح عمليّة تركيب الطرف بدايةً، فاللحم كان طريّاً سهلَ التمزّق، كما أنّ عظم الساق كان بارزاً، كلّما نظّفوا الجرح نزَف، ما اضطرّني إلى استخدام العكّازات فترة زمنيّة.

* محبة الرفاق عكازي
كنت لاعب كرة قدم في المنتخب اللبنانيّ، كما شاركت في الدوري الفلسطينيّ لأنّني لاعبٌ محترف، ولشدّة تعلّق أعضاء النادي بي ساءهم ما حلّ بحالي، فأرسلوني بعد سنواتٍ من الإصابة إلى بلغاريا عبر الصليب الأحمر، حيث خضعت لجراحة مجدّداً، بُتر خلالها المزيد من قدمي؛ ليستطيع الأطباء لفّ العضلات حول العظم البارز. وبعد نجاح العمليّة، صار بإمكاني الاستعانة بطرفٍ صناعيّ والسير مجدّداً دون نزف أو ألمٍ. عدت إلى لبنان بعد سنة، حيث رُكّب الطرف بنجاح، ما أتاح لي الانخراط بشكلٍ شبه طبيعيّ في العمل الجهاديّ الإعلاميّ في جريدة العهد، كما شاركت في الاحتفالات والأنشطة الإعلاميّة. وقد اقترنت بمن اختارها الله لي، فكانت المؤنسة المجاهدة، الصابرة معي على البلاء، وقد رزقنا الله سبعة أبناء، جميعهم لا يحيدون عن خطّ الجهاد قيد أنملة.

* تحيّةٌ وسلام
أوجّه تحيّاتي إلى كلّ الإخوة الجرحى، وأطلب منهم الصبر على الجراح، والتعايش معها، وأسأل الله أن يلهمنا الصبر؛ لأنّنا نسير على نهج الإمام الحسين عليه السلام. أقف عند آخر محطّة دموع في العيون، أحضن اشتياقي الذي يحنّ إلى زمانٍ مضى، وأكثر ما يحزنني هو تقييد جراحي لي بعملٍ جهاديٍّ معيّن، فهدفي أن أقدّم أكثر لهذا النهج. وما يزيد صبري هو رؤيتي للجرحى ذوي الإصابات البليغة، فتتلاشى عندها إصابتي، وأشعر بالتقصير مقارنة بغيري من المضحّين والمتألّمين.

لو طُلب منّي العودة إلى الميدان لن أتراجع حتّى نيل الشهادة في سبيل الله، وسأرابط في الميادين كلّها لأحقّق مُنيَتي.


اسم الجريح: حسن محمد المشورب.
الاسم الجهاديّ: أبو عبد الله.
تاريخ الولادة: 24/4/1959م.
مكان الإصابة وتاريخها: الخندق الغميق- 1986م.
نوع الإصابة: بتر القدم اليمنى.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع