آية الله الشيخ حسين مظاهري
تنقسم الوسوسة إلى قسمين، الأوّل: فكريّ، والثاني: عمليّ، ولقد بحثنا في الموضوع الأوّل سابقاً، وبقي لنا أن نبحث في الثاني.
فالوسوسة العمليّة: هي تلك التي يكون فيها الإنسان ظانّاً في طهارته أو وضوئه، أو غسله، أو عبادته بشكلٍ غريب، وغير طبيعيّ، فتراه مثلاً، يتوضّأ أربع أو خمس مرّات، وبعدها تحدِّثه نفسه أنّ وضوءه باطل، أو أنّ بعض قطرات الماء نجسة، وما شابه ذلك من الوسواس.
إنّ الوسوسة العمليّة إذا ظهرت في المؤسّسة الأسريّة، هدّتها من الأساس وتركتها خاوية. فمن أين تأتي هذه الوسوسة؟
* إذا تسلّط الشيطان..
إذا تسلّط الشيطان على عقل الإنسان جعل منه منافقاً، وغشّاشاً، ومحتالاً، وفي مجال السياسة كذّاباً ومتلاعباً.
وإذا ما تسلّط الشيطان على القلب، جعل منه تبعاً له، فيصبح صاحب ذلك القلب من عبّاد المال والشهرة.
وقد يتسلّط الشيطان على فكر الإنسان، فيوسوس له فكريّاً وعمليّاً؛ ليرى أشياء لا حقيقة لها ولا واقع، وكذلك ليسمع أصواتاً وهميّة يظنّها حقيقةً يجب أن يعمل بها، بينما ليست سوى وساوس شيطانيّة متدنيّة.
فالجبان -على سبيل المثال- إذا كان الشيطان متسلّطاً على قواه التخيليّة، يحسب أنّه يرى الجنّ أو الملائكة إذا قضى ليلةً في إحدى الخرائب، بل ويتوهّم أنّه يسمع أحاديثهم، وفي الحقيقة كلّه وهم وخيال.
أو قد يدخل أحد الجبناء إلى مقبرة، فإذا تسلّط الشيطان على قواه التخيليّة، يرى الموتى أحياءً، بل قد يرى أحدهم يجري خلفه ويمسك به، فيُغشى عليه خوفاً.
إنّها قوّة الخيال المؤثّرة في بصره وسمعه، وقواه اللّامسة، والتي جلبت إليه ذاك البلاء المهيب.
كذلك الحال في الوسوسة العمليّة، على سبيل المثال، يشعر المتوضّئ بترشّح الماء من يده بعدما غسلها بالماء مرّات عديدة، ويشعر أنّ ثمّة مكاناً بها لم يُغسل بعد بالرغم من أنّها لم تكن كذلك، ولكنّ الوسواس الذي في قلبه، نتيجة تسلّط الشيطان عليه، يخبره أنّ يده ما تزال نجسة، وعليه أن يتطهّر مرّة ثانية وثالثة ورابعة.
* مرض روحيّ
إنّ الحال الطبيعيّة لأيّ إنسان أن يحسم أمر الأشياء التي يرى فيها ضرراً عليه، ويقطعها فوراً، على العكس من تلك التي يرى فيها نفعاً له. لكن الوساوسيّ لا يطمئن للمفيدة، ولا يتأتّى له أن يقطع ما فيه ضرر. ففي مسائل الطهارة، لا يستطيع أن يصدّق طهارته إلاّ بعد تطهيرٍ كثير، فالثابت له هو النجاسة، ويجد صعوبةً في رفعها، فيعيش دوّامة التطهّر اللانهائيّ.
إنّ مثل هؤلاء أفراد لا يمكن القول فيهم إلّا أنّهم مرضى، ومرضهم روحيّ، فإذا ترك أحدهم معالجة هذا المرض، تفاقم عليه ليصبح كالسرطان المتفشّي في جميع أنحاء الجسم، وعندها، يكون إنساناً غير طبيعيّ في المجتمع.
* حبال الشيطان الخبيث
إنّ الذي يجب أن نفطن إليه هو أنّ الشيطان اللّعين مستعدٌّ لحرفنا عن الطريق القويم إلى الطريق المعوّج، فيأتي أحدهم عن طريق المعصية، ويوقع شخصاً ثانياً عن طريق الكسب الحرام، ويشجّع ثالثاً على التوغّل في الشهوات، ويقول لرابع إنّ السلطة جميلة وتليق بك وحدك، وكذا يوسوس لكلّ الناس حينما يشخّص ضعف كلّ واحدٍ منهم؛ حتّى يسيروا على نهجه المنحرف، فيتنكّرون للعفّةِ والشرف والأمور الطبيعيّة.
يُقال إنّ شخصاً رأى الشيطان في منامه، وكان في يده حبال كثيرة، فسأله عن سبب حملهِ لتلك الحبال؟ فقال إنّها لجرّ الإنسان إلى جهنّم الحامية، ثمّ سأله ثانية: وما هذه السلاسل التي تحملها على كتفك؟ فقال: إنّها للسيّد فلان، ولقد ذهبت إليه اللّيلة فقيّدته بها ثلاث مرّات، ولكنّه قطعها في المرّات الثلاثة.
ثمّ سأله عن حبالٍ ملوّنة كان يحملها؟ فقال الشيطان: إنّ لكلّ فرد طريقة أتقدّم بها إليه، وهذه الألوان هي الطرق والمناهج التي يمكن أن ينحرفُ بها البشر عن الصراط المستقيم، فأحدها الغيبة، والثاني هو التهمة، والثالث الشائعة، والرابع هو الوسواس الذي أقيّد به الذي يريد التطهّر، أو الوضوء، أو العبادة والخامس...
﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (الأعراف: 16-17). قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "احذروا عدوّاً نفذَ في الصدور خفيّاً، ونفث في الآذان نجيّاً"(1).
* لكلّ طريقه
إنّ الشيطان قد يوسوس للمرأة المتساهلة والمتهاونة في أمور دينها، فيشجّعها على التبرّج والسفور؛ ليصل بها في نهاية الأمر إلى التنكّر للعفّة والشرف، والعياذ بالله، ويأتي إلى الرجل فيوسوس له أيضاً؛ لكي يقيّد الاثنين بحبائله فيجرّهما إلى جهنّم وبئس المصير: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا* وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾ (النساء: 118-119).
وقد يكون المُغرّر به جاهلاً، وضعيفاً فكريّاً، فيسلّط الشيطان الرجيم عليه أحد رجاله الجهلاء؛ ليجرّه إلى جهنّم بخيط وليس بحبل. وقد يكون المغرّر به عالماً، فيقيّض له شيطاناً عالماً أيضاً، يأتيه بالاستدلالات لكي يحلّل لنفسه الحرام. وقد يسوّل الشيطان لأحدهم الغشّ، أو التطفيف في الميزان، أو الرشوة إذا كان ذا مقامٍ إداريّ، وقد يأتي لأحدهم عن طريق العلم، والرغبة في التسلّط، وحبّ المال والجاه، وما إلى ذلك.
إنّ لكلّ إنسان طريقاً يأتيه الشيطان منه، وهذا ما ذكره المرحوم الشيخ غلام رضا يزدي حينما قال: "إنّ لكلّ شخص شيطاناً، وشيطاني حتماً سيكون أحد شيوخ الشياطين؛ لكي يتمكّن من الاستدلال بإغوائه لإقناعي وجرّي إلى التهلكة".
وجاء في تفسير الميزان: "إنّ المراد من اتّباع خطوات الشيطان، ليس اتّباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل، بل اتّباعه فيما يدعو إليه الله من أمر الدين؛ بأن يزيّن شيئاً من طرق الباطل بزينة الحقّ، ويسمّي ما ليس من الدين باسم الدين، فيأخذ الإنسان به من غير علم".
* كيف ندفع الشياطين؟
ومن أجل أن ندفع الشياطين، علينا أن نلتزم دائماً بقراءة سورة الفلق. واسعوا لأن تعلّموا أبناءَكم قراءة السور الأربعة التي تبدأ بكلمة (قل)، وحثّوهم على قراءتها حينما يخرجون من الدار صباحاً كي يتمكّنوا من حفظ أنفسهم وأرواحهم من همزات الشياطين المردة.
قال إبليس: "خمسة ليس لي فيهنّ حيلة، وسائر الناس في قبضتي: من اعتصم بالله عن نيّة صادقة، واتّكل عليه في جميع أموره، ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن ما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع على المصيبة حين تصيبه، ومن رضيَ بما قسم الله له، ولم يهتمّ لرزقه"(2).
عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إنّه يقع في قلبي أمر عظيم، فقال: "قل: لا إله إلّا الله"، قال جميل: فكلّما وقع في قلبي شيء قلت: لا إله إلّا الله، فيذهب عنِّي"(3).
* رأفةً بهم
إن التعامل مع الأفراد الذين يشعرون بإلقاءات الشياطين في نفوسهم ينبغي أن يكون دقيقاً، وحذراً، كالتعامل مع أيّ مريض؛ لأنّ المبتلى بالوسواس لا يعدو كونه مريضاً، وإلّا لما صدرت عنه تلك الأفكار والأفعال التي لا ترتبط بالواقع.
فالغضب، والانتقاد، والشدّة في الحديث يزيد في مرض الوسواسيّ، وعندها يصبح مجنوناً؛ لذا ينبغي أن نسايره مدّة من الزمن كيّ تخفّ وطأة المرض عليه، فيتعافى بإذن من الله تباركت أسماؤه.
(*) مستفاد من كتاب: الأخلاق البيتيّة، الفصل الثاني عشر
1- نهج البلاغة، الخطبة رقم 83.
2- الخصال، الصدوق، ص 285.
3- الكافي، الكليني، ج 2، ص 424.