الدكتور سمير سليمان
* الإمام وصراع النموذجين الحضاريين:
من روح المشروع الإسلامي الحضاري للعالم، كان الإمام الخميني ولواء الدعوة إليه والاستنهاض به حمل، وعقيدته ومبادئه اعتنق، وبأحكامه وحدوده عمل، وعلى خط الأنبياء والرسل والأئمة سار، مستنهضاً ومربياً وثائراً وشاهداً، والمسلمون ظهرهم إلى الجدار والمأزق الحضاري والوجودي في الأوج.
أذّن الإمام:"حيَّ على خير العمل" فبُعثت حضارة التوحيد من جديد، مشمرة للصلاة واستئناف مسيرتها الجهادية - كما الأمة - في وجه حضارة المادة والباطل لتستعيد مسؤولية اضطلاعها بحمل مشروعها الإلهي، وتعيد تجديد عهد الاستخلاف الرباني للإنسان في الأرض، بعدما طال زمان نكوثها به قروناً عديدة.
بعين الإسلام ومنهج الرؤية فيه نظر الإمام الخميني إلى العالم فلم يجد سوى نموذجين حضاريين: نموذج الاستضعاف وفيه المسلمون، ونموذج الطاغوت الجامع لكل قوى الباطل وأتباعها في الأرض. وقد سماها الإمام:"طريقين: طريق الله وطريق الطاغوت"، وليس ثمة طريق ثالث، ومصطلح"الطاغوت" أما مصطلح الطريق الآخر فمصدره الآية الكريمة:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور".
وذلك استناداً إلى رأي الإمام نفسه. والطريقان المنوّه بهما متطابقان مع مفهوم الحضارتين، النموذجين الحضاريين. نموذج حضارة الحق، ونموذج حضارة الباطل.
فطريق الله النموذج الحضاري الإسلامي هو الطريق الذي يجعل الإنسان مهتدياً في جميع جوانب حياته: في الجانب العقلي، وفي الجانب المتوسط الذي هو الجانب الخيالي وفي الجانب التنزلي وهو جانب العمل، فإذا سار (الناس) على هذا الصراط المستقيم فهم إلهيون، فالطريق طريق الله، وكل من سلك هذا الطريق هو إلهي، حتى يكون كل شيء في الإنسان في أَماله وحركاته، وفي تخيلاته وفي تعقلاته إلهياً" ارتكازاً إلى تحديد الإمام.
وطريق الطاغوت - النموذج الحضاري الباطل - عنده - طريق الظلمات:"طريق الظلمات العالم كله الذي لا يتوجه إلى الله" - على حد تعبير الإمام - باعتبار طريق الله وحدها هي الطريق إلى النور"والنور هو نور الله المطلق الذي يجب أن يتوجه العالم كله نحوه". فكل ما هو خلاف التوحيد هو"الكفر وهو الطاغوت ونهايته إلى جهنم". وبالتلي، فإنّ"كل حركة يقوم بها الإنسان، سواء كانت قلبية أو روحية، أو حركة عضوية، ليست خارج هذين الحدين". النموذجين الحضاريين، فأما أن تكون باتجاه الصراط المستقيم إ لى الله، وأما باتجاه"الطاغوت المنحرف نحو اليسار أو نحو اليمين".
إلى هذا المنهج إذن يستدل الإمام بالقرآن، وبجوهر رسالات الأنبياء وأهدافها فيقول:"وقد أنعم الله علينا بمجىء الأنبياء ليهودنا إلى طريق الله الذي يوجب إيصال العالم بأسره إلى السعادة والعيش براحة وأمان في جو م التربية الصحيحة، ويعيدوا الناس إلى مسار التوحيد الإلهي... هذا طريق الله.. فعلينا جميعاً أن نتحرك في هذا الطريق... والذين يدعون إلى غيره يوجهون الناس إلى خلاف مسيرهم الطبيعي ومسير فطرتهم هم الضالون، وهم الطواغيت".
نحن أمام نموذجين حضاريين مختلفين في مفهومهما ومنطلقاتهما وأهدافهما ونظريتهما إلى الإنسان والحياة والتاريخ والطبيعة وما وراءها، ولا تصالح بينهما، فالصراع بينهما - أي بين الحق والباطل - هو الذي يحكم علاقتهما: نموذج يشد الأرض إلى السماء، ونموذج يشد إلى الأرض، وإذا كان بعض حواري النموذج الثاني يرفعون أنظارهم نحو السماء، فإنهم يفعلون ذلك بعد أن استنزلوا إلههم من السماء إلى الأرض وجسَّدوه في كائن أرضي أو حوّلوه إلى عجوز بهي الطلعة يقطن السماء، أما الأرض فهي لقيصر، وقد نسخت رسالة الله وسخرت لخدمة الطواغيت بينما النموذج الأول التوحيدي يقول باتجاه موجودات العالم"في اتجاه واحد، ونحو مركز تكامل واحد وفق نظام منسجم"، كما يقول"بوحدة الكائن الإنساني في محتواه الداخلي، وفي حركته التكاملية الإنسانية ووحدة المجتمع الإنساني في نظمه واتجاه حركته"، على طريق عبودية الله الواحد الأحد، لذلك حمل بالإسلام في يد منطقاً ودعوة ومنهجاً في التربية والتعليم لخلق إنسان ذي محتوى داخلي موحد... وحمل في يد أخرى سيفاً لاقتلاع جذور العلاقات الإنسانية الظالمة، وللإطاحة بالطبقية، ولتحطيم الطواغيت".
لقد تماهى النموذج الحضاري الإسلامي في الإمام، وتماهى الإمام فيه، فانفلق من هذين التماهيين موجٌ طام لجبٌ قلب بفعله معادلات الواقع والتاريخ والحديث والحياة، واستوت بفضله سفينة الأمة مصححة مسيرتها إلى قبلتها الأصلية.
فأنقذ الإمام المشروع الحضاري الإسلامي، كما أنقذ نوح بفلكه نسل الحياة، وكان فعله الإنقاذي بذاته نموذجاً حضارياً إلهياً على هدى خط الرسالات والأنبياء.
* الإمام والمشروع الحضاري الإسلامي:
قد يبدو الحديث عن الإمام الخميني والمشروع الحضاري الإسلامي، وكأنه حديث عن منظر ونظرية تقتضي البحث في إمكانية تطبيقها على أرض الواقع أم لا؟
ربما يصح مثل هذا الطرح في فكر المفكرين الأرضيين الذين لا يمكن أن يصدر، عنهم إلاّ فكر ناقص، لأنهم ناقصون بذواتهم، أما في موضوع فكر الإمام الخميني فالقضية غير مطروحة من أساسها، لأن الإمام ينطلق ويتكامل ويحاكي"فكراً" منزَّلاً منبثقاً من السماوي المطلق الكامل.
وعلى هذا الأساس يكون من باب التعسف - عندنا - اعتبار الإمام"منظراً" بالمعنى الرائج للمصطلح.
في هذا السياق - نعتقد - من جهة أخرى - بعدم وجود نظرية منفصلة عن التطبيق في المشروع الحضاري الإسلامي، وخصوصاً في قضية الإمامة والولاية بما هي قضية مبدئية من قضايا هذا المشروع"فالنظرية" فعل إنساني، و«التنظير" من شأن البشر. أما في الإلهي فثمة أحكام وشرائع وأوامر ونواه وسنن لا مجال للشك في صحتها مصداقيتها وخيرها لمصلحة المستخلف البشري على الأرض. وأهم من ذلك كله أن الإخلال بها والنكوص عنها، مستوجباً لأعباء ومسؤوليات وعقوبات موصوفة في الدنيا والآخرة. وليس الإمام - أو من هم في موقعه - بمثابة منظِّرين، بل"علماء بالقانون الإسلامي" الإلهي، ومتصدون لبيان أحكام الله عز وجل وإقامة حدوده وتنفيذ ما أمر به وما نهى عنه، متحقق فيهم، إلى جانب الأعلمية شرط ضروري آخر هو العدالة، على أساس أن"العلم بالقانون، والعدالة، هما ركنان من أهم أركان الإمامة"، أي أن فقاهتهم وعلمهم إدراكات حصوليان لموجود متزل من لدن الله سبحانه، إنهما بتعبير آخر: أرضيان يكدحان إلى السماوي، بما هو أيضاً مقرر لخدمة الأرضيين وصلاحهم، في الحياة وفيما بع دالحياة، في تكامل ارتقائي لا ينقطع، ومتى كان السماوي منفصلاً عن الأرضي؟!
ليس الإمام الخميني - إذن - منظراً، بل هو حامل المشروع الحضاري الإسلامي الذي هو بذاته"نطريته" الإلهية ودليل هدايته وحافظها. فقد أعاد الإمام إليه ما أفقده العباد من زخم الفعالية بعد أن جهلوه فهجروه.
لقد هاجر إليه الإمام مستعيداً ومستنقذاً، وثار به وله وفاق ذات المنهج النبوي والإمامي، وكلُّ تميزٍ حضاري برز في مسيرته، وكل فعل، واجدان أصلهما ومبدأهما وحكمتهما في الإسلام كتاباً وسنة. كيف لا؟ وللإسلام حكم في جميع شؤون حياة الإنسان المادية والمعنوية"إلى حيث لا يصل إدراككم إليه"، حسب تعبير الإمام نفسه.
في انتظام هذه المسيرة التاريخية وانضباطها داخل أطر المشروع الحضاري للإسلام لاحظ الدارسون ثلاث مراحل أساس: مرحلة الاستنهاض والتبليغ، ومرحلة الثورة، ومرحلة تأسيس الحكومة الإسلامية وإطلاق عقال الدولة.
لكن هذا التصنيف لا ينطبق تماماً على طبيعة ومنطق ومجريات الثورة الإسلامية في إيران، كما أنه مخالف للنموذج الحضاري الثوري منظوراً إليه بمنهج الإسلام ومعاييره.
إننا إذ نقول بوجود"مراحل" ثورية متدرجة من الدعوة، إلى الثورة، إلى الدولة، فذلك يعني أن الدعوة تنتهي بانفجار الثورة، وأن الثورة تنتهي بنشوء الدولة ووصول الأمة إلى حالة الثبات والسكونية والاستقرار متدبرة شؤونها، مرتدّة إلى جوّانيتها تتشرنق فيها في نظام معيش الأمم وعلاقاتها"المستقرة" في حدود دولة يصطلح على تسميتها بالدولة الستاتيكية داخل حكومة استاتيكية.
وهذا ما لا يتوافق مع ما يراه الإسلام والإمام الخميني - حامل لوائه - من كون المنهج الذي ينبغي أن يحكم حركة البشر حركياً قائماً على الارتقاء باتجاه المثل الأعلى الإلهي: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه).
«فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحنه، والكدح... يعني السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة... بل هو سير ارتقائي، هو تصاعد وتكامل". من هذا العالم إلى العالم العلوي، وبين هذا العالم العالم العلوي.
يقول الإمام الخميني في إشارة إلى الآية السادسة من فاتحة كتاب الله التي يرددها المسلم في صلاته عشر مرات كل يوم (اهدنا الصراط المستقيم):"الصراط المستقيم أحد رأسيه هنا، والرأس الآخر في ذلك الجانب من العالم، مبدأ النور... والذين يدعو إلى غير هذا الطريق هو الطواغيت".
لكن هذا الارتقاء بيس ارتقاء بالمعنى الرياضي للكلمة. أنه لولبي بحيث تتصاعد الأمة فيه من خلال دوائره، وكل واحدة منها تشكل مرحلة تطورية من مراحل صعود المشروع الحضاري الإسلامي باتجاه مثله الأعلى الرباني، وتتكامل فيها الدعوة بالثورة والدولة، وتحتضن الثورة المرتقية الدعوة والدولة، وترتفع الدولة إلى الدعوة والثورة وتدفعها باتجاه حركة تصاعدية جديدة... وهكذا يتطور المشروع الإسلامي وينمو بحركة الأمة وعبورها التاريخي ليعم العالم، وتتحقق أهداف الاستخلاف الإلهي الإنسان على الأرض.
وهكذا تتوحد الدعوة والتبليغ والثورة والدولة في مدار واحد فلا تكتفي إحداها بذاتها أبداً، وتغدو الدعوة دائمة والثورة والحكومة مستمرة النمو والتوسع والتقدم. لكن الدعوة تبقى الثابت التأسيسي والمواكب.
* ألا يتخذ شعار"تصدير الثورة، محتواه من هذا البعد المنهجي؟
إن المشروع الإسلامي الذي كان باعث الإمام، وبسبب من جهوزيته، يختزن في ثناياه - بلا ريب - كل مراحل الثورات بشكلها الكلاسيكي دفعة واحدة، كذلك كان - بالإسلام - منذ بعثة النبي وصولاً إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى وفي ثورة الإمام الحسين وجهاد الأمة، وكذلك هو في ثورة الإمام الخميني عندما بدأها في كل شيء على كل شيء - من الإسلام بالإسلام إلى الإسلام - لإسقاط الطاغوت. فمنذ اللحظة الأولى قام بفعل التثوير ليحكم الإسلام - أنه في قلب دائرة التثوير الدائم التكاملي، بحيث تمثل كل نقطة في هذه الدائرة، كل أنشطة الثورة الحيوية بغية إيصالها إلى الهدف المنشود.
في هذا المنهج الوحدوي التوحيدي يمكننا - اصطلاحاً - الكلام على موضوعات في الثورة الإسلامية القابضة على المشروع الحضاري للإسلام فندرس مواضيع أمثال - مفهوم التبليغ والاستنهاض - مفهوم الثورة - ومفهوم الحكومة والدولة - مؤكدين على مسلمة سبق لنا وناقشناها، وقوامها أن الإسلامي في مسألة الفكر متحدر من الإلهي، ومنزل عنه، إضافة إلى اعتقادنا بتعذر فصل"النظرية" عن التطبيق ها هنا، وبالتالي تعذّر إمكانية الحديث عن مفهوم مستقل عن"كيفيته" وأهدافه، قال تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فالكلم الطيب هو"الاعتقادات الحقة التي يسعد الإنسان بالإذعان لها وبناء عمله عليها وهي التوحيد - ثم أن الاعتقاد والإيمان إذ كانا صادقين حقاً، صدقهما العمل ولم يكذبهما. فالعمل من فروع العلم وآثاره التي لا تنفك عنه" بما هو معرفة بحقائق الاعتقاد والإيمان."وإذا آمن الإنسان بالله تعالى، ورآه بعين القلب كما يرى الشمس ببصره فإنه من غير الممكن أن يرتكب أي ذنب" أو معصية، وفاق رأي الإمام الخميني، وليست العبادة بالنسبة إلى العابد الحقيقي سوى"عهد"، وما الحياة إلاّ ساحة الوفاء بهذا العهد.
قياماً للوفاء بهذا العهد، وتشبثاً بأصوله التكوينية ونموذجيته الحضارية، واتحاداً فيها. تجلت إمامية الإمام فإذ به نموذج للعالم الفقيه المسلم ونموذج للعارف المسلم ونموذج للمستنهض المسلم ونموذج للثائر المسلم ونموذج للعابد المسلم العاشق لعبوديته، ونموذج القائد المسلم... إنه نموذج للإنسان الإلهي الذي تتوحّد فيه هذه النماذج الحضارية كلها وتذوب.