الدكتور محسن صالح
تتمتع الثقافة الإسلامية بعناصر القوة هي ما فوق الزمان والمكان، وهو ما تفتقد إليه الثقافات الأخرى، وعندما نتحدث أو نقول ثقافة إسلامية إنما نقصد ما فهمه العقل الإسلامي من النصوص الثابتة والمقدسة، فيما يتعلق بالروحي والمادي، من الدروس الإلهية في الكتاب - القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وسنة الأئمة المعصومين عليهم السلام.
فمن حيث الصورة ترتبط هذه الثقافة بمجموعة من المميزات، والتي كأنها ولدت بالأمس أو اليوم، تعلها قادرة على تجاوز كافة المعوقات التي عادة ما تواجهها الثقافات الأخرى.
وعندما تقول ثقافة - بالمعنى العام وما توصل إليه علماء الثقافة من تعريفات، فإنه لهذه الكلمة - المصطلح أكثر من مائة وخمسين تعريفاً، ولكن المتعارف عليه، وما هو صالح للعام؛ إنها عبارة عن مجموع الإنتاج الروحي والمادي والفني لشعب من الشعوب.
هنا تكمن بعض أسرار قوة الثقافة الإسلامية في مواجهة الثقافات الأخرى. فالثقافة الإسلامية استطاعت أن تخترق كافة الثقافات العالمية: الروحية، المادية والفنية، ولم تستطع الثقافات الأخرى اختراق الثقافة الإسلامية بما تعنيه من مسلمات أصولية لما لها صفة الديمومة. وما يحكى عن عوارض التأثر الذي لحق بالثقافة الإسلامية، إنما هو في قشور وأشكال لا تدخل في المعتقدات الإيمانية ولا حتى في أقل المقولات سندا وتعقلاً. لننظر وبموضوعية إلى قدرة الثقافة الإسلامية على الاختراق على الصعد التالية!
على الصعيد الروحي لا زال الإسلام يتقدم على باقي الديانات من حيث قدرته على الوصول إلى عقول وقلوب أصحاب الثقافات الأصلية والفرعية في أوروبا وآسيا وأفريقيا حيث يعتبر من أهم وأرقى الديانات الإنسانية على الإطلاق، لربطه السلوك والإيمان بما يشبه التلازم، وبما يحرك فيه محاكاة النفس لمعقولاتها الأولى.
وعلى الصعيد - العلمي المادي هناك اقتناع - وكنتيجة للعامل الأول - بأن المشكلة المادية التي يعاني منها عالم وإنسان اليوم إنما تحتاج إلى سماحة وأخلاق وعدل الإسلام لكل يتقدم ويحل هذه المشكلة. أما على الصعد المادية الأخرى من عمارة ومن غيرها فإن العالم يتمثل أصالة الفنون الإسلامية من خطوط وهندسة وعمارة ونقش حيث لا زال الأوروبيون ينظرون بعين الإعجاب للفن الذي يسود الجوامع والمقدسات الإسلامية.
عنصر آخر وذو أهمية عالية وعالمية: أن الثقافة الإسلامية عادة وربما دائماً ما تخاطب الضمير والوجدان العالمي لكل الطبقات وهذا ما ينقص ثقافات أخرى كالمادية والرأسمالية والديانات المحلية والديانات السماوية التي تخلت عن مقدساتها وكتبها وأصبحت عنصرية ومادية بحيث باتت عاجزة عن مخاطبة سوى قلة قليلة في العالم، إن الثقافة الإسلامية وخلال قرون قصيرة - بالنسبة للزمن الآخر ولزمن الآخرين - استطاعت أن تخترق الحدود، اللون، العرق، الوطنية، القومية وللغات، وتصل من طنجة في المغرب العربي إلى جاكرتا في الشرق الأقصى.
يقول توماس أرنولد في كتابه عن تراث الإسلام: «بأن هذا الدين - الإسلام - استطاع عبر ثقافته وسماحته التي تحاكي كافة الأعراق واللغات - أن يتجاوز كل حدود العالم ويصل إلى كل زواياه» وبثبات واستقرار وازدياد، هذا على الرغم من كافة المعوقات والسلوكيات التي أحاطت بهذه الثقافة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تاريخية هذا الدين وما كتب وما قيل بحقه، وما لا زال قادراً على الفعل التاريخي، هو أنه الذين الأكثر قدرة على التكيف والمحافظة على الجيِّد والإنساني من ثقافات الشعوب الأخرى والعمل على إلغاء وإبطال ما هو لا إنساني وهو ما يتوق إليه بفطرته كل فرد وخاصة هؤلاء الذين تعرضوا للقمع والاستكبار العالمي - أفريقيا على سبيل المثال.
يمكن تقسيم ثقافة المسلمين إلى قسمين مكملين ومترافقين وجاذبين، على حد قول روجيه غارودي - حينما سئل عند سفارته للإسلام في أوروبا فقال: إن للإسلام جاذبيته الخاصة وبدون سفراء.
المهم أن هذين الركنين اللذين يجعلان من الإسلام دين الدعوة الدائمة والروحانية الدائمة والعملية الحضارية الدائمة:
- عناصر قوة أصلية: روحية - عقلية - جهادية ذاتية.
- عناصر قوة فرعية: مادية - عملي - جهادية ذاتية وجماعية عربية.
كلا هذين الركنين يشكلان ويمثلان ما يمثله الإنسان كخليفة لله سبحانه وتعالى على الأرض من حيث الفكرة ومن حيث التمثل الواقعي فالسلوك الإنساني العام إنما يدور حول هاتين النقطتين: هذا في الوقت الذي ترتكز فيه معظم الثقافات العالمية على جانب من هذه الجوانب فالديانة الهندية تتمثل الجانب الروحاني الصرف وتمحق وتختزل الجانب العملي والجهادي. أما الثقافة الغربية الغربية الأورو - أميركية فتركز على الجانب الذي يجعل الإنسان عبداً للمادة. فالأول، الهندي: يجعل من الفرد صنماً صغيراً لذاته، والثاني يجعل الإنسان قزماً مادياً.، أما الثقافة الإسلامية وقوتها فإنها تجعل وبناء على النصوص الشرعية والانتاجات الثقافة الثورة للعلماء العظام فقد توجوا روحانيتهم وعرفانهم ومعرفتهم بالجهاد ضد الانحراف والمادية.
ولو لم تكن الثقافة الإسلامية بهذه القوة والعمق في محاكاة العقل الإنساني فما كان ليتسنى لثورة الإمام الخميني قدس سره أن تشهد الظفر الذي قل نظيره من بين الثورات العالمية الأخرى والتي انتهت إلى الظلم كالثورة البلشفية والثورة الجزائرية... الخ.
إن الثقافة المتمثلة بصدق للعناصر وللبذور الثقافية الأصيلة صورتها أيضاً تحاكي العالم على أنه ليس ديناً طبقياً استغلالياً ولا ديناً قومياً ولا ديناً تاريخياً وفي التاريخ وإن كان يصنع التاريخ.
ففي ثقافة التوحيد دحر لأصنام الجاهلية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وفي ثقافة النبوة المعصومة تثمل لأخلاقيات الله سبحانه وتعالى ورسله منعكساً ذلك على سلوك المتمثلين في العدل والإنصاف. وفي ثقافة العدل سعي دائم الارتفاع بالإنسان نحو الحق - الهدف النهائي للبشرية كافة.
أما في الثقافة العملية، فإن المفهوم الواقعي منها يدل على مدى القدرة على تنظيم العلاقة بين الخالق والمخلوق وبين المخلوقات في علاقاتهم، وبين الفرد وشخصه ومعاملته وجهاده الذاتي. فالله تعالى وهو أحسن الخالقين وأحسن المنظمين قد أوجد إنساناً وخلقه وأراد منه شيئاً وأراد به شيئاً فإن تثقف بما أراده منه وفعل ما أراده منه فإن في ذلك مصدر وجوده الحقيقي.
فهذا التوازن الذي توجده الثقافة الإسلامية في الفرد والمجتمع إنما هو وجود الفرد والمجتمع لموجود أزلي - فالميت متوفٍ جسده - إلى حين - وروحه باقية، فالموجود هنا في الأرض موجود ما فوق الأرض ومن هو ميتٌ ولا متوازن على الأرض فهو ميت فوق الأرض. وثقافة دائمة مع نص دائم إنما هي قوية قوة النص. فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله: (إنا أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون) صدق الله العلي العظيم. فثقافة مستمدة من هذا الذكر هي التي جعلت ثورات الحق تتجدد دائماً وستبقى. فثورة الإمام الراحل قدس سره هي من بركات هذه الثقافة، والمقاومة للعدو - هي من بركات هذه الثقافة.
والحمد لله ربِّ العالمين