(ه) شاهد على هزيمة العدو في معتقل الخيام
الأسير المحرر علي حيدر
لعلَّ من المناسب في هذا الموضع من هذه السلسلة التي تناولت معالم السياسة الإسرائيلية في معتقل الخيام والمرحلة التي وصلنا إليها في شرحنا حول كيفية مواجهة الأسرى لهذه السياسة أن نخصص موضوعاً نتناول فيه شخصية أسير شكلت ميدان اختبار حقيقي ليظهر بصدقٍ حقيقة وضع كل من طرفي الصراع في المعتقل، وهنا من الطبيعي أن يقع الاختيار على أحد الشهداء وبحكم معرفتي التفصيلية إلى حد ما بحياة الأسير الشهيد "بلال السلمان" قبل الاعتقال وبعده، الأمر الذي يمكّن من إعطاء صورة كافية تحقق الهدف من الموضوع كان اختياره هو لإلقاء الضوء على مواقفه وسيرته أثناء جولات الصراع بينه وبين الجلاد المحتل.
فقد شكل الشهيد نموذجاً دائماً ودليلاً ساطعاً على فشل سياسة الإرهاب وبث الرعب التي انتهجها المحتل والجلاد الإسرائيلي في منطقة الشريط المحتل وفي معتقل الخيام، بل وأكثر من ذلك فقد كان للمعاناة دور في صقل شخصيته وتكاملها وجعلها أكثر صلابة.
ولكي لا يكون كلامنا عاماً وإجمالياً ولكي نلمس وندرك (ما ذكرناه من فشل للعدو على هذا الصعيد وصلابة للشهيد) إدراكاً مباشراً ومحدداً وتفصيلياً إلى حد ما، لا بد عبد أن نمر على مرحلة ما قبل اعتقاله أن نتناول هذه الجوانب من شخصيته وحياته داخل المعتقل:
- مقارنة ثباته بين مرحلتين...
- مواقفه ومسلكه بعد مرحلة استشهاد أخيه..
- واللحظات الأخيرة من حياته.
وسأحاول أن أقسم الفقرات بما ينسجم مع اعتبار كل منها جولة صراع لها ظروفها ونتائجها والحكم النهائي فيها هو للقارئ المطلع.
* الجولة الأولى:
كان الشهيد في مرحة معينة من فترة ما قبل اعتقاله بعيداً إلى حد ما عن المقاومة وما يتعلق بها كما كان له اهتماماته وميوله الأخرى وفي الوقت الذي كان فيه على هذه الحال فرضت ونشرت "إسرائيل" أجواء رعب واعتقالات وتهجير واستفزازات على أبناء بلدته (مركبا) أواخر 1985، ومن المعروف ما هو الهدف الذي تبتغيه "إسرائيل" من وراء ذلك، إذ في الحد الأدنى يعتبر الهدف هو إبعاد الناس عن المقاومة والتعاطف معها وجعل أي إنسان يفكر بينه وبين نفسه بالالتحاق بركبها أن يرى بعينيه ما يمكن أن يحل به وبأهله... إلاَّ أن السؤال هنا ماذا كانت النتيجة، بل حققت "إسرائيل" ما أرادت؟
الجواب هو أنه في هذه الأجواء وبعد أن شددت "إسرائيل" من تنكيلها واضطهادها التحق الشهيد بصفوف المقاومة وأخذ يقوم بدوره من داخل المنطقة المحتلة بشكل سري إلى أن اعتقل وبذلك تحطم كل جبروت "إسرائيل" أمام إرادة التحدي لهذا الفتى وفشلت "إسرائيل" في تحقيق الأهداف المذكورة، ما جعله يشكل رمزاً من رموز العنفوان والرفض حتى في أحلك الظروف.
* الجولة الثانية: مقارنة بين مرحلتين:
بعد أن تجاوز الشهيد الجولة السابقة بنجاح تام وانتقاله إلى جولة أخرى على حلبة المعتقل والتي من المفترض أن تكون ظروفها لمصلحة العدو وبالتالي فإنه ينبغي في الأصل أن ترجح وتزداد نسبة إمكانية تحقيق أهدافه التي يبتغيها من وراء الأسر ومما يمارس خلاله. وعلى افتراض أن الصورة التي عاشها ويعيشها الأسير في معتقل الخيام واضحة وأساليب التعذيب معروفة ننتقل إلى ما بعد ما يقارب السنة من اعتقال الشهيد، أي في الفترة التي تجدد فيها التحقيق معه وتجدد تعذيبه بشكل أشد وأعنف مع الإشارة إلى أن ذلك حصل بعد فترة من اعتقال والده ووالدته وأخيه وحجزهم في معتقل الخيام وتهجير بقية أخوته إلى بيروت، في هذه الأجواء من المهم أن نبين ماذا بدا من هذا المجاهد الأسير؟ هل أضعفه اعتقال والديه وتهجير بقية العائلة؟ أم هل لوت هذه السياط التي عادت تتلوى على جسده الطاهر إرادته؟ إنها جولة تقارع فيها الإرادة السياط...
لقد أظهر الشهيد صلابة مميزة خلال التحقيق وعنفواناً شامخاً ومعنويات عالية وذلك على الرغم من أنهم فتكوا بجسده فتكاً، ولكن كما أن تعذيبهم ازداد نسبة لتعذيبه في بداية اعتقاله كذلك فإن إرادته اشتدت أكثر من الأول وعزيمته قويت حتى كأنه بلغ أشده في هذا الإطار وقد كان ذلك بارزاً لدرجة أنه لاحظ ذلك كل من كان في القسم معه وقد كان لافتاً للنظر في هذا المجال.
وهنا نتساءل هل تعتقل "إسرائيل" من تعتقلهم وتعذبهم لكي يزدادوا صلابة أم تحطم إرادتهم؟ وهل تنكل بهم لإجبارهم على التراجع أم ليصبحوا أكثر تمسكاً وحرصاً على المسيرة؟.. وهكذا تتضح نتيجة هذه الجولة.
* الجولة الثالثة: استشهاد أخيه
وما يمكن أن يعتبر جولة أخرى من جولات الصراع بين الشهيد وجلادي المعتقل في ظل أجواء الضغط والحرمان.. هو ردة فعله على استشهاد أخيه (الشهيد عماد السلمان) ومسلكه داخل المعتقل في مرحلة ما بعد تلقيه النبأ خاصة إذا علمنا بأنه كان لأخيه الشهيد الدور الكبير في التحاقه بصفوف المقاومة.
ومن أسباب اعتبار ذلك جولة صراع هو أن الصهاينة والعملاء اهتموا بأخباره باستشهاد أخيه وهم أول من أخبره ظناً منهم أن ذلك قد يفتت من عضده أو يوهن من عزيمته مع الإشارة إلى أنه لم يصدقهم في بادئ الأمر ظناً منه أنهم قد يكونوا اختلقوا الخبر، ولكن بعدما تأكد في مرحلة لاحقة لم يبدُ منه إلاَّ الصبر والشكر بل وتحول استشهاد أخيه إلى حافز وشحنة إضافية ألهبت فيه الحماس والاندفاع في مواجهة الجلادين. واللافت أن هناك عبارة كان يرددها على الدوام (مع ما لها من دلالات) عندما يبادر أحدهم إلى تهنئته أو تعزيته باستشهاد أخيه هي: "الله يرزقها (الشهادة) لمن يتمناها".
وإن تألقه يشمخ وسموه يرتقي أكثر عندما نقرأ بعضاً من مواقفه في هذه المرحلة، وسنتكلم باختصار عن حماسه وروح المبادرة لديه وعن إيثاره ودفاعه عن الأسرى ومشاركته في محاولة تصفية أحد العملاء.
لقد تميز الشهيد بمشاركته الفعالة والدائمة بل وبمبادرته إلى الوقوف بوجه الصهاينة واللحديين انتفاضاً إلى إضراباً أو سجالاً كلامياً.. وأستطيع أن أقول أنه منذ استشهاد أخيه عماد (بشكل خاص) كانت مواقفه على الدوام في حال عرض عليه أو أمامه عدة خيارات للتحرك داخل المعتقل ميالة إلى الاصطدام والبأس والشدة في مواجهة الأعداء.
وعن دفاعه عن الأسرى وإيثاره يكفي أن أذكر جزءاً من قصة غزيرة الدلالات: عندما تدهورت صحة أحد الأسرى في فترة وقسم وظروف يعرف الشهيد أنه في حال بادر هو إلى المطالبة بمعالجته سيكون لذلك أثر كبير عليه في مجال التعذيب والمضايقة التي قد يتعرض لها وعلى الرغم من كل ذلك وقف الشهيد بكل شموخ يصرخ لهم (الشرطة) وعليهم لكي يأتوا ويقوموا بمعاينته ومعالجته، فما كان من العملاء إلاَّ أن أخرجوه من الغرفة وتم تعليقه على العمود وما أدراك ماذا جرى وماذا يجري هناك.. ورغم كل هذا لم ينئنِ.. وللقصة تكملة لا يسع المجال لذكرها..
إضافة إلى ذلك شارك الشهيد في محاولة قتل أحد العملاء داخل المعتقل مع العلم أنه كان واضحاً له وللجميع بأن هذه المحاولة سواء فشلت أم نجحت فإنها ستنعكس إرهاباً وتعذيباً واضطهاداً وقمعاً له ولكن بادر دون تردد، وهكذا واصل الشهيد مسيرة تكامله وارتقائه ويتضح لنا أيضاً كم هو عظيم ذلك الفوز الذي حققه في هذه الجولة..
* الجولة الرابعة واللحظات الأخيرة من حياته:
على أثر اندلاع الانتفاضة في القسم الثالث من المعتقل سنة 1989 كان للشهيد دوره في توسيع دائرتها لتمتد إلى القسم الرابع وذلك لمؤازرة الأخوة المنتفضين وتخفيف الضغط عليهم وحصل ما حصل أثناء الانتفاضة.. وبعدها اختار الصهاينة واللحديون مجموعة من الشباب الأسرى لتعذيبهم انتقاماً لما حصل ولردعهم عن التفكير بالقيام بذلك مرة أخرى وكان الشهيد أحد هؤلاء ولاقى ما لاقى من التعذيب ثم تم نقله إلى القسم الثاني من المعتقل وأدخل إلى إحدى الغرف وهو في حالة يرثى لها من آثار التعذيب والقنابل الغازية لدرجة أنه كان لا يستطيع التنفس والحراك إلاَّ بصعوبة وبالكاد أيضاً يستطيع الكلام.
وبينما هو على هذه الحال أخذ يكلم رفاقه في الغرفة وهنا يتساءل المرء بماذا كان يفكر في هذه اللحظات التي كان ينازع فيها كيف كانت معنوياته ما هي أولوياته؟ إن الأجوبة عن كل هذه الأسئلة وغيرها تتضح عندما نعلم ما هي الجملة الأخيرة في حياته التي سمعها وفهمها رفاقه منه وهي: "يجب أن نكون أقوى منهم".
تصوروا كم يشعر هذا الشهيد بالعزة والقوة وهو على هذه الحال وهو أسير في معتقل الخيام.. وبعدها نام ولم يستيقظ حيث لم يعرف رفاقه بشهادته إلاَّ عندما حاولوا إيقاظه لأداء صلاة الصبح وانتقل إلى الرفيق الأعلى وفاز بالفوز الأكبر.
* ملاحظة وعبرة:
نلاحظ مما ذكرناه أن مسار الشهيد كان مساراً تصاعدياً وذلك على الرغم من توالي المصائب واشتداد التحديات، ففي كل مرحلة ووفقاً لما سميناه ففي كل جولة كان الفوز إلى جانبه إلى أن فاز بالفوز الأكبر، ومن هنا يمكننا أن نقول أنه كان مصداقاً حقيقياً للمقولة المشهورة التي تردد: "نموت واقفين ولن نركع".