الشيخ بسّام محمّد حسين
عند ذكر اسم "عليّ" عليه السلام تحضر إلى الذهن معاني الأخلاق والقيم الإنسانيّة كلّها التي تجسّدت بشخصه، ولعلّ هذا أحد معاني ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ذكر عليّ عبادة"(1).
ولا يمكن الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام دون أن تحضر علاقته بالناس ومواساتهم لهم، فقد ضرب للإنسانيّة جمعاء درساً خالداً في كيفيّة إحساسه بالآخر وتعامله معه ومواساته له، كيف لا؟! وهو القائل في كتاب له إلى عامله عثمان بن حنيف الأنصاريّ: "ولَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، ويَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ، ولَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَه فِي الْقُرْصِ، ولَا عَهْدَ لَه بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى، وأَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ وحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ
أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ؟!"(2).
وقد كان عليه السلام حاضراً إلى جانب هؤلاء الناس، يعتني بهم كالأب الحنون الرؤوف، خصوصاً الأيتام الذين كان لهم نصيبٌ وافرٌ من رعايته، حتّى قال بعضهم: "شهدت عليّاً وأُتي بزقاق من عسل، فدعا اليتامى، وقال: (ذبّوا والعقوا)، حتّى تمنيتُ أنّي يتيمٌ، فقسّمه بين الناس، وبقي منه زقّاً، فأمر أن يُسقاه أهل المسجد"(3).
وكان في حكومته عليه السلام يوصي ولاته بالطبقة الضعيفة، وضرورة الاهتمام بها، ففي عهده لمالك الأشتر النخعيّ: "ثُمَّ الله الله فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ، مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِه الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْتَرّاً، واحْفَظِ لِلَّه مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّه فِيهِمْ، واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّه، ولَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِه لإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ، فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ ولَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ، مِمَّنْ تَقْتَحِمُه الْعُيُونُ وتَحْقِرُه الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالإِعْذَارِ إِلَى اللَّه يَوْمَ تَلْقَاه، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّه فِي تَأْدِيَةِ حَقِّه إِلَيْه، وتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ، مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَه ولَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَه..."(4).
ولم يكن يغفل حتّى عن الضعيف من غير المسلمين، فقد روي أنّه مرَّ شيخٌ مكفوفٌ كبيرٌ يسأل، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "ما هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين نصرانيّ، فقال عليه السلام: استعملتموه حتّى إذا كبُر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال"(5).
وتبقى وصيّته الأخيرة الخالدة تذكّر كلّ محبّ لعليّ عليه السلام بالآخرين ومواساتهم: "الله الله فِي الأَيْتَامِ، فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ ولَا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ. والله الله فِي جِيرَانِكُمْ، فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّه سَيُوَرِّثُهُمْ. وعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ والتَّبَاذُلِ، وإِيَّاكُمْ والتَّدَابُرَ والتَّقَاطُعَ"(6).
فسلامٌ عليك يا كافل الضعفاء، ويا إمام الأتقياء، يوم ولدت ويوم مضيت شهيداً في محرابك، ويوم تُبعث حيّاً.
(1) بحار الأنوار، المجلسي، ج38، ص 199.
(2) نهج البلاغة، الكتاب رقم: 45.
(3) أنساب الأشراف، البلاذري، ج 2، ص 136.
(4) نهج البلاغة، (م. س.)، الكتاب رقم: 53.
(5) تهذيب الأحكام، الطوسي، ج 6، ص 293.
(6) نهج البلاغة، (م س.)، الكتاب رقم: 47.