لقاء مع الجريح المجاهد إبراهيم أسعد زين (الحاج عباس)
حنان الموسويّ
انتشر الرفاق في الخندق وخلف الساتر. شخصت عيون الجميع إلى وليد قلبي "قنبر"، القذيفة التي تُرمى من سلاح "الكلاشن"، والذي أضفتُ إليه بعض لمساتٍ من التطوير، وهم مشتاقون إلى تجربته مثلي. كانت المهمّة متابعة طلب القذائف وتجربتها، قبل تسليمها للمجاهدين. رميتُ القذيفة الأولى، انطلقت من مكانها بأمان، فَعَلَت أصوات البهجة. وما إن ضغطتُ لأجرّب الثانية، حتّى عانقتني بكلّ شظيّة منها، احتشدت جميعها لتزرع أوشام الجرح على رأسي ووجهي وعنقي، فقطع النزيف أنفاسي حين تخثّر الدم في حنجرتي، وانقطعت منّي إشارات الحياة. انفجارها أيقظ قلب المجاز، فحار الجَمع في أمري. مرّوا على وجعي، وفوق ملامحي المبعثرة، وانهالوا يحاولون إنعاشي، لكن دون جدوى.
•نشأةُ الحبّ
كنت متعلّقاً بخطّ المقاومة منذ صغري، لكنّ والديّ أرسلاني إلى أفريقيا لمتابعة دراستي. سبع سنوات مرّت، ونيّتي أن تكون الدراسة لخدمة الخطّ المقدّس. عدتُ بعدها لأرتمي في أحضان الثغور، أرتق الجهاد لتقرّ عيني، خصوصاً عند التحاقي بالمرابطات في الإقليم. خضعتُ لدورات عسكريّة، وشاركتُ في مراسم إحياء يوم القدس لسنوات عدّة، ما أهّلني للتفرغ ضمن صفوف المجاهدين في وحدة الهندسة عام 1995م.
رحتُ أغزل المسافات بين لبنان وسوريا، أنسج الطرقات شبراً شبراً، وعلى أجنحة الفراشات عبرت الوقت؛ ليكون كلّ سلاحٍ عدّلته أناملي وطوّرته أفكاري، نجم احتفالات الأعداء الموصل إيّاهم إلى جهنّم في كلِّ آن، خصوصاً أنّه في كلّ مكانٍ عانى نقصاً في العتاد أو السلاح، توجّب عليّ ورفاقي سدّ ذاك العجز، فكنتُ كما إخوتي في هذا المجال، أنحتُ جسد المسافة مهما طالت المدّة، والهدف تحسين السلاح وتطويره، بل تطويعه لما يحتاج إليه الميدان.
•لمسة الموت
عملتُ جاهداً لإضافة لمسة تحديثٍ إلى "الكلاشن". كنت في أحد المعسكرات لأداء مهمّة تجربة "قنبر"؛ القذيفة التي نضجت بين أناملي، وإذ بها تنفجر بي، فتركّزت الإصابة في رأسي، وجهي، وعنقي، وصدري، وذراعي، وكلّ الجزء العلويّ من جسدي. لم يقِني الدرع الذي تمزّق من قوّة الانفجار، فنقلتُ مباشرةً إلى مشفى "الشيخ راغب حرب" في النبطيّة بعد أن أحدث المُسعف شقّاً في الرقبة؛ لأستعيد أنفاسي. بقيتُ غائباً عن الوعي لمدّة أسبوعين، كانت حظوظي في البقاء على قيد الحياة لا تتعدّى نسبة 10 بالمئة بسبب نزيف الدماغ. خضعتُ خلال الأسبوع الأوّل لجراحتين في رأسي، نُقلت بعدها إلى مشفى الخوري في بيروت، وهناك مكثتُ مدّة شهرين. ربّما الجراحات التي أجريت لي لا تُعدّ: في الفكّ، والخدّين، والرأس، والدماغ، والكتف، والفقرات الأولى في ظهري، وحتّى أصابع يديّ التي لم يبقَ منها سوى الشكل. معاناة لا نهاية لها، أجدها خيراً عميماً اختصّني الله به، سيستمرّ معي استمرار النفَس، طالما هناك شظايا خالطت لحمي.
فقدتُ القدرة على الكلام وتناول الطعام مدّة طويلة، لأنّ كلّ تقاسيم وجهي تشوّهت، فخضعتُ للعديد من الجراحات التجميليّة حتّى عاد وجهي لهيئته، وفمي إلى طبيعته تقريباً. وخضعتُ لعلاج إعادة النطق، وتمرين للفكّ، بعد الخضوع لجراحتين متتاليتين مؤخّراً، وما زلت أتلقّى العلاج حتّى الآن.
عدتُ إلى عملي ولكن بدوامٍ غير كامل. ذهني دائم الانشغال بالأفكار التي بإمكانها تطوير المسيرة ومساندتها. في قلبي مساحات شاسعة من الأوجاع، لكنّها لم تردعني وجراحي عن المثابرة، إنّما زادتني حماسةً وعطاءً.
•شجرة وحياة
لشغفي بالزراعة قصّة؛ فقبل تحرير عام 2000م، كنت أرابط في منطقة اللويزة ضمن وادي الليمون، مهمّتي كانت نقل العتاد الذي وُضع قرب نبع الطاسة إلى المغاور المنتشرة في الجبل. ورغم وعورة الطريق وبرودة الطقس، تكرّر نزولي نحو الستّ مرّات، وفي كلّ مرة كنت أحمل العتاد والذخيرة على ظهري، ما خلا المرّة الأخيرة؛ فقد طلب منّي المسؤول نقل صفيحة مليئة بالبنزين إلى المغارة الثانية، وأثناء توجّهي إليها، تهتُ وسلكت طريقاً أخرى، كانت مع الأسف مكشوفةً للعدو الإسرائيليّ. طاردت قلبي عن غير قصد، لحظات فقط وكانت الطائرات تنفّذ هجوماً فوق رأسي. انبطحت أرضاً وصرت أردّد سرّاً: "لو أنّ شجرةً واحدةً زُرعت في هذه النقطة، لكانت حمتني". لفظتُ الشهادتين وانتظرت صاروخ الحقد ليفجّر جسدي أشلاء. نفّذت الطائرات هجوماً وهميّاً وابتعدت بعدها، وقد كُتب لي عمرٌ جديد! ومنذ ذلك الحين، آليت على نفسي أن أزرع الأشجار أنّى استطعت، لتنبثق رئة تمدّ للخافقين الحياة.
•زرعتُ للمجاهدين 100 شجرة
تجدني الآن الأكثر زيارةً للمشاتل، أعتنق تفاصيل النباتات وأختار أفتاها، كما أنّي قمت باختراعٍ لريّ الأشجار، يرويها مهما شحّت المياه.
قضيتُ وقتاً مُمتعاً في الحَفر وزراعة الأشجار على أوتوستراد الشهيد السيّد هادي نصر الله رحمه الله، وأكثر من 32 شجرة من الزيتون والتين هي في عنايتي الخاصّة. حتّى أمام منزلي، كانت شجيراتي المدلّلة تحظى بحيّزٍ كبير من اهتمامي. أمّا التشجير في المعسكرات، فقد حفظني عناصر الأمن عن ظهر قلب، وانطبع السرور المنبعث من حواسي في نفوسهم، فعشقي للزراعة وللأشجار لا مثيل له، وتفكيري في المجاهدين لا يتوقّف؛ لذا قرّرتُ زراعة 100 شجرة مثمرة هناك، كي يستطيع الشبّان الاستفادة من ثمارها في حال انقطاع الطعام.
•خدمة الأقربين أَولى
ربّما قمتُ بعملٍ باركه الله، فكافأني عليه في الدنيا قبل الآخرة. فقد وهبني عائلةً لا مثيل لها، تستوي في راحتي دمعة عند ذِكر زوجتي: ملاك المحبّة الذي احتواني. لست أدري كيف أشكر الله أن أنعم بكِ عليَّ، فكنتِ فيض الرحمة وسط ازدحام الآلام، فخورٌ بحديثي عنكِ، أليست الآية الكريمة تقول: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى: 11)؟ وأنتِ يا شريكتي في البلاء أعظم النعم، فكلّ الحمد لربّي أن أهدانيكِ.
زهرات داري: فاطمة، زينب، ومليكة، عيناي ظامئتان لرؤيتكنّ كلّ حين، تستعطفان وجوهكنّ العذبة. أنتنَّ إكسير السعادة في حياتي، وجودكنَّ القوّة والأمان وزينة الحياة الدنيا.
خدمة الناس من أحبّ العبادات، وهي طبعٌ متأصّلٌ يسري في دمي، وعائلتي هي الأَولى بالخدمة، لذا إن استطعتُ أن أخدم من حولي بأشفار عينيّ، لن أقصّر البتّة.
•حبٌّ ودعاء
سيّدي نصر الله؛ استراح على مسار خدي الشوق إليك، ويجيء الورد باقات دعاء ليقف عند أعتابك. أسأل الله أن يأخذ من عمري ويزيد في عمرك المبارك، فأنت نعمة ربّانيّة لا سبيل لأداء شكرها مهما جهدنا. واجبنا أن نلهج بالدعاء لسلامتك، وأن ننشر فضائلك وتضحياتك. قربانك الذي قدّمته -الشهيد هادي- يجب أن تؤرّخ سيرته؛ لأنّه الدليل الأعظم على مدى التزامك بعقيدتك قولاً وفعلاً.
لله أنذر ما يُخفي الحنين من أمنيّات لألتقي بحضرتك مجدّداً؛ ففي التكريم عام 2000م لم تسنح لي الفرصة أن أثمل من رؤيتك أكثر. مُدّ إليَّ نسيم روحك ليسعفني، فأنت الملاذ يا قائدي.
•كلمة من القلب
أقول للناس: منذ أوّل الزمان، أرسل الله الأنبياء والرسل عليهم السلام لهداية البشر وحمايتهم، لكن عمى بصيرة بعض الآدميّين وجشعهم أدّيا إلى قتل أولياء الله، وما زال ميدان البشريّة قائماً على ذلك؛ منذ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام. أمّا نحن، وقد منَّ الله علينا بسيّد المقاومة، فعلينا أن نكون الدرع الحامي والواقي له، فهو الذي قدّم ولده قرباناً في سبيل الله لنحيا نحن، وكلّنا نرى احتراق قلبه لأجلنا، أضعف الإيمان أن نكون أوفياء له، ألّا نطعنه أو نتخلّى عنه. مهما بعثرتنا الظروف وادلهمّت الأيّام، علينا نصرة الحقّ.
للجرحى النازفين على الدروب جَمالاً أقول: أتمنى لو تحلُّ أوجاعكم وآلامكم كلّها بي. كم أرجو الله أن تُقطع يداي وقدماي دون أيّ جريح منكم، لأواسيكم وأستشعر معاناتكم، فوالله لا أحد يدرك وجعكم، إلّا من عاشه.
الجريح: إبراهيم أسعد زين.
الاسم الجهاديّ: الحاج عبّاس.
تاريخ الولادة: 24/8/1970م.
مكان الإصابة وتاريخها: بركة الجبّور 17/1/2020م.
نوع الإصابة: جراح متفرّقة في الرأس، والجزء العلوي من جسده كافّة.
زوطر الشرقية
ابو علي
2022-01-03 22:38:37
اخي العزيز ان الله منّ عليكم بالجهاد وكانت لأياديكم اثار طيبة وما انت عليه من جراح سيكون انشاء الله جواز المرور الى جنان الله تعالى