آية الله محمد إبراهيم جناتي
يعتبر آية الله محمد إبراهيم جناتي من كبار مدرّسي الحوزة العلمية في قم المقدسة، بدأ بتحصيل العلوم الدينية في مدينة شاهرود ثم انتقل إلى النجف حيث درس عند كبار علمائها من أمثال السيد الشاهرودي والسيد الحكيم والسيد عبد الهادي الشيرازي وغيرهم على مدى 25 سنة من إقامته هناك.
كتب هذا البحث لمجلة (كيهان أنديشه) على حلقات باللغة الفارسية وترجمه لنا فضيلة الشيخ أحمد وهبي.
في الحلقة الماضية تحدث عن الهدف من علم الفقه وفي هذه الحلقة يصل الكلام إلى تكامل هذا العلم.
* تكامل علم الفقه:
لقد تكامل على علم الفقه منذ ظهوره حتى الآن تكاملاً كبيراً، لأن الفقه هو من العلوم المرتبطة بواقع حياة الناس، ويأخذ بعين الاعتبار الوقائع الداخلية والخارجية، فالفقه يعني معرفة الأحكام الإلهية ليقين الوظيفة الشرعية للناس. وهكذا علوم هي باستمرار في تكامل، لأن لها ارتباطاً مباشراً بوظيفة ومسؤولية الناس، وهذه الوظيفة تتغير في الأزمنة المختلفة وتتبدل، وتقبل التكامل والتقدم مع تطور أمور الحياة الاجتماعية والاقتصادي. وواضح جداً أن هناك تفاوتاً كبيراً بين الحياة في صدر الإسلام وحياتنا الحالية. بناءً عليه إن تطور علم الفقه إلى جانب تقدم الزمان وتكامل الحياة هو أمر لازم وبديهي(*).
نظراً لهذا الأمر يمكن اختصار العلل والعوامل المؤثرة في تكامل علم الفقه في المراحل المختلفة بالأمور التالية:
أ- تقدم الزمان:
لا ترديد في أن تقدم الزمان له تأثير كبير في تكامل وتطور علم الفقه من جهة المعارف والعلوم المختلفة وتطور أمور الحياة من ناحية الظواهر والحوادث الجديدة الموجبة لظهور مسائل فرعية كثيرة. بناءً على هذا يمكن أن قال بأن الآراء الجديدة والنظريات العميقة والدقيقة للفقهاء العظام في المرحلة الثامنة من تطور علم الفقه ناشئة من هذه المسألة. أما المرحلة السابعة فتبدأ من زمن الشيخ الأنصاري (قدس سره) وتعد مرحلة تدقيق الفقه.
ب- تطور الفقه المرحلي في المراحل الماضية:
إن تكامل وتطور المسائل الفقهية المرحلي في المراحل السابقة كان له تأثير لا يمكن إنكاره على تطوره في المراحل الآتية، لأن فقهاء كل مرحلة انطلقوا من إظهار مسائلهم الجديدة من المكان الذي انتهى فيه فقهاء المرحلة السابقة، وكمثال المرحوم الشيخ المفيد (قدس سره) الذي هو من كبار فقهاء المرحلة الفقهية الثالثة انطلق بالتحقيق والتفكير والتعمق بالدقة من نفس المكان الذي وصل إليه ابن الجنيد (رضوان الله عليه) فقيه المرحلة الثانية الكبير.
كما أن الشيخ الشهيد (رحمه الله) الذي هو من فقهاء المرحلة السادسة العظام، ابتدأ بحثه ودراسته الدقيقة بالدقة من نقطة نهاية تطور مطالعات الشيخ المفيد والشيخ الطوسي (رحمهما الله).
وكذلك فعل الشيخ الأنصاري (قدس سره) الذي هو من أساطين الفقه والعلماء الكبار في المرحلة الثامنة، بالنسبة لعلماء المرحلة السابقة عليه. ولا شك أن هذا النحو من البحث له أهمية كبيرة في تطور علم الفقه.
ج- الأجواء العلمية:
أحد العوامل المهمة التي كانت دخيلة في بعث التكامل في علم الفقه هو وجود الأجواء العلمية التي كان يرى فيها شخصيات علمية وفقهية عظيمة.
عندما انتقل مذهب التشيع من المدينة المنوّرة إلى الكوفة فتأثر تأثراً كبيراً بالمحيط العلمي الذي صار حاكماً لأنه في ذلك الزمان كان يوجد في الكوفة عدد كبير من العلماء، وكان للانتقال من الكوفة إلى قم والريّ ومن هناك إلى بغداد ومن هناك إلى النجف الأشرف أيضاً تأثير كبير عليه.
لا بد من الانتباه إلى أن كل واحد من هذه المراكز العلمية لفقه الشيعة، كان يسهم بشكل كبير في تبلور ورشد ونمو وتنوع فروع المسائل الفقهية.
د- قابليات الفقهاء الفردية:
لقد كان للقابليات والاستعدادات الفقهية من ناحية الفكر وبعد النظر والعقائد الفردية أيضاً في كل مرحلة تأثير كبير في تكامل علم الفقه، من هنا يمكن أن يقال: إن نظريات الشيخ الأنصاري (قدس سره) الجديدة في أبحاثه الفقهية والأصولية في المرحلة الأخيرة لتطور الفقه كما أنها لم تكن بدون ارتباط بتأثير محيط ا لحياة وتقدم الزمان وتكامل الفقه المرحلي في العصور السابقة عليه، كان لها أيضاً ارتباط وثيق بقابلياته الشخصية. وهكذا الأمر فيما يرتبط بجميع الفقهاء (قدس الله أسرارهم) ومن كان من بين الفقهاء والمعاصرين لزمان واحد يتمتع بمواهب علمي أكثر فإن نظرياته بدون شك كان لها قيمة أكبر، وكانت مبانيه العلمية تمتاز بمقدار أكبر من المتانة. وسيكون نتاجه العلمي دائماً أكثر من غيره...
في ظل هذه العوامل نسعى لدراسة جميع عصور تطور الفقه المختلفة، ونبين مذاهبه المختلفة إضافة إلى الوجوه البارزة في كل عصر. لأن التعرف إلى العصور المختلفة للفقه وإلى تاريخه على أساس اختلاف المحيط والأحوال و الأوضاع، وتفاوت الأزمنلا واختلاف الأحداث الناشئة ومن اختلاف الآراء والنظريات وتعدد العقائد والأفكار أوجب أن يكون الفقيه يتمتع بمعرفة ووعي ووضوح أكبر.
الكتابة في تاريخ الفقه:
عندما راجعت كتباً مختلفة للتحقيق في مراحل الفقه، أدركت أنه حتى الآن أن هذه المسألة بمعناها المصطلح لم تدرس وتبحث من قبل الكتاب والمحققين. والظاهر أنه قبل الآن لم يكتب كتاب من قبل الشيعة يدرس ويحقق في جميع عصور الفقه المختلفة(*) ولم يبحث في مراحله المختلفة "التشريع، التبيين، التدوين، التقسيم والتنظيم، التنقيح والتهذيب، الاستدلال والاستنباط والتوسعة والتكامل، التدقيق، والتلخيص. ومذاهبه المختلفة وعلماءه البارزين المعروفين طوال تاريخ الفقه الإسلامي. وهذا الأمر موجب للأسف الشديد.
وجيد أن يقوم المحققون بالبحث الواسع حول مراحل الفقه المختلفة، الذي تبدأ مرحلته الأولى من بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، وتنتهي بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة.
المرحلة الثانية التي هي مرحلة الأصول الأربعمئة التي تبدأ من زمن أمير المؤمنين عليه السلام وتستمر حتى غياب الإمام عجل الله فرجه، وهكذا سائر المراحل حتى المرحلة التاسعة التي هي زماننا وتعتبر مرحلة تلخيص الفقه.
بديهي أن إكمال هذا الموضوع، والبحث الواسع حوله يحتاج إلى فرصة أكبر وعناية أكثر.
(*) هذا التطور ليس بمعنى اتساع التقنين والتشريع لأحكام جديدة، بل هو بمعنى إرجاع الجزئيات إلى الكليات والقواعد.
(*) لقد نشر كتاب فارسي باسم (عصور الفقه) كتابة "محمود الشهابي" بثلاثة أجزاء، ولكن الكاتب كتب أكثر عن أعلام الفقه وتراجم الرجال وطبقات الفقهاء، ولا يصح أن يسمى "بعصور الفقه".