مقتطفات من خطاب ولي أمر المسلمين سماحة الإمام القائد السيد علي الخامنئي (حفظه الله) يوم عيد الغدير الأغرّ.
أُهنّئ وأُبارك حلول هذا اليوم العظيم لجميع مسلمي العالم ودعاة الحقّ وعشّاق العدالة، وبالأخصّ الشعب الإيراني المسلم... ولاسيّما الذين يتحمّلون المسؤوليات الجسيمة لإدارة شؤون البلاد.
إنّ ما يمكن أن يفهمه مَنْ يُطالع التاريخ من أمثالنا من حادثة الغدير هو ما يتضمّنه ذلك التنصيب الإلهي من مفهوم في مسألة كيفية إدارة شؤون البلاد وانتخاب الصالحين لتوليّ المسؤوليات الكبيرة.
طبعاً إن أصحاب النظرة العرفانيّة العالية ومن ارتبطت قلوبهم بمنابع النور والمعرفة قد يدركون أُموراً أُخرى من تلك الواقعة لا يستطيع غيرهم من الناس إدراكها.
أمّا الذي نفهمه نحن من هذه الحادثة فهو أن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بتعيينه أمير المؤمنين عليه السلام ـ بأمر من الله ـ لمنصب الولاية قد أظهر هذه الحقيقة الإسلامية الناصعة وهي: إنّ المسؤولية الجسيمة لإدارة المجتمع الإسلامي هي قضية لا يمكن معها غضّ النظر عن شيء من المعايير والقيم الإسلامية بشكل كامل ودقيق.
فهل كان يوجد إنسان أعظم من أمير المؤمنين عليه السلام الذي جُمعت فيه كلّ القيم الإسلامية السامية.
فالإيمان، والإخلاص، والتضحية، والإيثار، والتقوى، والجهاد، والسبق للإسلام، والانصراف عن كلّ ما هو لغير الله، والعزوف عن الزخارف الماديّة، وتحقير الدنيا، والعلم، والمعرفة، والقمَّة في الإنسانية بجميع أبعادها، كانت جميعها من القيم الكريمة التي كان يتحلّى بها مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.
وهذا الأمر لا تقول به الشيعة فقط، بل لقد أجمع المسلمون والمؤرِّخون والمحدِّثون الذين كتبوا عن حياته بصدق وإنصاف، أنّه عليه السلام كان يتحلّى بجميع تلك الخصال، بل أكثر من ذلك.
ولهذا قام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في يوم الغدير ـ وأمام أنظار الذين كانوا يعرفون تلك الخصال في أمير المؤمنين ـ بتعيينه لمنصب الولاية.
وهذا يعني إعطاء الأهميّة القُصوى للقيم والمعايير الإسلامية، وهو أمر يجب أن يبقى موضع اهتمام المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي حتى ظهور الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف. ولكن ـ وللأسف ـ إنّ الأمة الإسلامية لم تتمكَّن من الاستفادة الكاملة من المواهب الإسلامية العظيمة؛ لامتلاكها تلك النقيصة الكبيرة، وهي: عدم رعاية القيم والمعايير الإسلامية في إعطاء المسؤوليات في المجتمع الإسلامي.
وإنّ ما يعنيه تنصيب شخص كأمير المؤمنين على رأس النظام النبوي ـ الذي صنعتهُ أيدي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المقدَّسة في صدر الإسلام الأول ـ هو وجوب رعاية تلك القيم والمعايير ـ في كلّ زمان ـ عند إعطاء المسؤوليات الأساسية في النظام الإسلامي. وهذه القضية في غاية الأهمية بالنسبة لنا نحن المسؤولين والعاملين في النظام الإسلامي.
ومما لا شكّ أنّه لا تجب رعاية تلك القيم والمعايير في انتخاب قيادة المجتمع الإسلامي فقط، بل هو أمر لا بدّ من رعايته في كافة مواقع المسؤولية في النظام الإسلامي.
وإنّ الالتزام بالقيم والمعايير الإسلامية من شأنه أن يجعل الأمة الإسلامية ترفل بالخير والبركة، كما نشاهده في الشعب الذي ينعم اليوم بالبركة بمقدار ما استطاع تحقيقه من هذا المبدأ الإسلامي الرفيع.
إنّ وعي الشعب وشعوره بالعزّة ناشئين من تمسّكه بإسلامه العزيز، وهذا نقيض ما كان يبغيه أعداء الإسلام دوماً.
فقد حاولوا تلقين المسلمين أن يشعروا بالخجل من انتمائهم للإسلام، وأن يُبعدوا المظاهر الإسلامية من حياتهم ومن حركاتهم وسكناتهم، والتظاهر بالمظاهر المخالفة للشرع، والسير خلافاً للمفاهيم الإسلامية، والانجذاب نحو جبهة أعداء الإسلام. وقد أرادوا جعل المسلمين ـ من أية شريحة وفي أي منصب كانوا ـ أن يتقرَّبوا أكثر من القيم ـ غير ـ الإسلامية؛ التي كان الاستعمار يحاول ترويجها في أوساط المجتمعات الإسلامية.
فقد حاولوا جعل مظاهر حياة المسلمين شبيهة بمظاهر الحياة الرائجة في المجتمعات الغربية، والتعامل فيما بينهم كتعامل الغربيين مع بعضهم، ونظرتهم للحياة كنظرة الإنسان الغربي للحياة، وممارسات المسلمين كممارساتهم، والاعتراف بالقيم الغربية على أنها قيم كريمة، وأن يتناسوا الإسلام بشكل كامل. وقد نجحوا ـ وللأسف ـ في أكثر البلدان الإسلامية التي استعمروها وأدخلوا ثقافتهم إليها.
فقد غيّروا شكل اللباس عند أبناء الشعوب، وبدّلوا طريقة تعامل الناس مع بعضهم، وغيّروا آداب الحياة عند المسلمين، وأبدلوا النظرة الإسلامية لدى أبناء الأمة، وأبعدوا الناس عن الإسلام، وقرَّبوهم إلى كلّ ما هو مخالف للإسلام.
واليوم فإنهم يشنّون أكبر هجماتهم ضدّ الشعب الإيراني المسلم، لإصراره على التمسك بمواقفه وقيمه وثقافته الإسلامية في سلوكه وفي تحركاته وسكناته، وفي تعامله على الساحة الدولية، وفي انتخابه لأصدقائه وأعدائه.
وفي مثل هذا الجو الفاسد الذي خلقته القوى الكبرى في العالم، استطاع شعبنا المسلم الرجوع إلى واقعه، واعتزازه بشخصيته وهويته الإسلامية. وواقع الأمر لا يكون إلاّ كذلك، لأنّ العزة لا تكون إلاّ للمؤمنين (ولله العزَّة ولرسوله وللمؤمنين)، فالأعزاء ـ حقاً ـ هم الذين تغلغل الإيمان في قلوبهم وانعكست مبادئه على جوارحهم. ولهذا فإنّ شعبنا يشعر ـ بحمد الله ـ اليوم بالعزة والكرامة. وهذا كله من بركة الالتزام بالمعايير التي ثُبِّتَتْ في الغدير.
فيجب علينا الاستفادة من قضية الغدير إلى أقصى حدٍّ ممكن من أجل تثبيت تلك المبادئ السامية في حياتنا؛ لأنّ الغدير هو الأساس لاعتقاداتنا ومبادئنا الشيعية.
ففي العهد البهلوي الفاسد عندما نقرأ في يوم الغدير: "الحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (عليهم السلام) كانت تلك الولاية لا تتمثَّل إلاّ في العواطف والعقائد النظرية فقط. أمّا من الناحية العملية فقد كانت الولاية للطاغوت والاستكبار وأعداء الإسلام.
وحينما كان المؤمنون يقرأون "اللهم اجعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين" يعني أنهم كانوا يطلبون من الله أن يجعلهم متمسكّين بولاية أمير المؤمنين.
أمّا اليوم فقد استُجيب هذا الدعاء، وتمسَّك الشعب بولاية أمير المؤمنين عليه السلام من خلال النظام الإسلامي الذي استخرجه إمام الأمة من حقيقة القرآن والدِّين وتمّ تطبيقه في هذا البلد.
ويجب علينا تعميق هذا التمسُّك وتركيزه أكثر فأكثر. وإنّ أساس التمسّك بولاية المؤمنين هو التمسُّك بالقيم والمعايير الإسلامية العظيمة.
فيجب العمل بجميع القيم الكريمة التي جاء بها الإسلام، سواء القيم الفرديّة، كعلاقة الإنسان مع ربّه سبحانه وتعالى والتوسُّل والتضرع إليه؛ والتي كانت من أهمّ القيم الفردية لإمامنا أمير المؤمنين عليه السلام، أو القيم والموازين الاجتماعية التي ترتبط بقضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والدولية، أو تلك التي ترتبط بعادات المجتمع وتقاليده.
فلا بدّ لكم من معرفة الأمور التي اعتبرها الإسلام قيماً سامية وتطبيقها في مجال عملكم، وفي انتخاب معاونيكم، وفي تنفيذ المهمات الموكّلة إليكم، وفي إعداد المشروعات للمؤسسات التي تعملون فيها. وهذا هو معنى التمسّك الكامل بالولاية.
وكلما كان الالتزام بهذا الأمر أكبر، كان المجتمع الإسلامي أقوى وأكثر شعوراً بالعزة والكرامة وتقدمه ـ في جميع مجالات الحياة ـ أسرع وأعمق.
إننا نعيش اليوم مرحلة حسّاسة ومهمة وتشاهدون إنّ العالم يشنّ هجوماً شاملاً ويقوم بتسديد سهامه المسمومة ضدّ السياسات البنّاءة لهذا الشعب المجاهد.
فالهجمة الإعلامية من جانب، والمؤامرات السياسية من جانب آخر، ومحاولة الإخلال بأوضاع البلاد الأمنية والاقتصادية من جانب ثالث. إلاّ أنّ تلك المؤامرات تبوء ـ والحمد لله ـ بالفشل الذريع. وما تشاهدون من نجاح للعدو في هذا المجال ما هو إلا جزء يسير من تلك المؤامرات الكثيرة التي يحيكها ضدّ هذا الشعب وهذه الثورة..
وفي مثل هذه الظروف فإنّ الالتزام الجدّي والحقيقي بالقيم والمعايير الإسلامية هو الذي يهيئ لكم أسباب الموفقية والنجاح في أعمالكم، وهو الذي يساعد على إنجاز عملية بناء البلاد ويعبّئ جميع القوى من أجل هذا البناء المقدَّس، وهو الذي يؤمِّن الحضور الدائم لأبناء الشعب في ساحة المواجهة. طبعاً إلى جانب كل ذلك لا بدّ من تسديد الله (سبحانه وتعالى) لنا في هذا المجال.
أسأل الله أن يجعل سلوكنا على نحو يجلب لنا التسديد الإلهي ـ في مسيرتنا الإسلامية ـ وأسأله (عزَّ وجلَّ) أن يتقبَّل منا أعمالنا، وما نفكِّر به، وما نقوم به من أداء للمسؤوليات الملقاة على عاتقنا.
وأسأله أن يُرضي عنّا إمام زماننا الإمام الحجّة المنتظر عجل الله فرجه الشريف وأن يدخل السرور على روح إمامنا الراحل رضوان الله عليه.