ندى بنجك
منذ بدايات القناديل التي أسرجت على التلّ، حينما كانت المقاومة جريدةً تُوزّع في الظلّ، ولدت في الميادين أسماء لها أسرارها، وانسكبت عند نوافذ الليل دمعات حائرة فوق وجنتَي أمّ... لا المجاهد عاد، ولا الأمّ أسقطت من يدها صورة وجهه، ولا فرشاة شعره، ولا ندمت على لحظة وداع، وإن داهمها الغياب أو العتاب، تمضي إلى الصلاة تسأل الله الصبر بركعتَين، وتمشي نحو روضة الشهداء، تختار مساحة مقدارها متر ترابيّ، وتبني له ضريحاً رمزاً، تلفّه بالورد، وتظلّله بفاتحةٍ من قرآن، وتبلّه بلا شكّ بحداءٍ ودمعتَين.
من أين بدأ هذا المسير؟ منذ متى أنزل الله هذه الحصّة من القداسة، وهذا الكمّ من الضوء في ميادين حزب الله المقاوم، فاختار منه ركباً لهم اسم خاصّ... "شهداء مفقودو الأثر"؟!
من أين..؟ حتماً بدأ الأمر من نقاء أرواحهم.
منذ متى؟ ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة: 111)... والمقاومة هجرة مستديمة إلى الله، أبداً لم تكن يوماً مرحلة.
•الشهيد "ذو الفقار"(1): أين رأسك المفقود؟
أمس، كان الأمر غايةً في الأبّهة، غايةً في الرهبة، غايةً في الروعة.
أمام ضريحك الذي يفترش رخامَتَه بهاءُ وجهك، استحضرتُ يوم عودة جثمانك المجلّل الذي انتظرناه سنواتٍ بشغفٍ وعشقٍ أجل، ولكنّي استحضرتُ أوّلاً ومطوّلاً فكرة أنّ هذا الضريح الذي يضمّ جسدك، يخلو من رأسك! ذهبت جوارحي وأفكاري مباشرة إلى موضع التراب الذي يفتقد جزءاً، صنع منك تاريخاً بمفردك. رأسك الذي بقي ولم يعد، وجدته هو محطّ الحكاية، وهو خلاصة سرّك وسحرك وفرادتك. إنّه رأسك المفقود يا شهيد حسن عزّ الدين. يا من كنّا لسنوات نحتسبك مفقود الأثر، لقد عاد بعضك، وظلّ رأسك... لكنّ الذي بقي منك هناك، هو أنت... هو وهجك الممتدّ مع الأيّام، المنسكب في سيرة الأولياء الخواصّ... إنّ الذي بقي منك هناك، هو كلّ الأثر.
يقولون: رأسك مفقود، عجيب! لكنّني وجدته أكثرك موجوداً! رأسك مفقود؟! ولكنّ ذكره يحلّ وسط حكاياتنا، تماماً مثلما يحلّ في الصلاة مشهد السجود.
كم من غيابٍ يجلب الحضور؟! كم من فقدٍ تستريح على ضفافه حكايات لها قداسة أهل الله، لها كلّ مدارات العزّة؟!
فاضت قرانا بالأبطال. وحينما يكون البطل شهيداً، فذلك مقام، وعند الله ما عنده من توصيف ورضوان. وحينما يعود الشهيد في نعش، ويشمّ الضريح مسك الجثمان، فذلك أُنس لقلوب محبّيه، ومسحة جبرٍ وأمان. أمّا وأنّ لنا في مسار الدرب قافلة، جاهدت واستشهدت، وكُتب لها فوق البرّ، برٌّ. كُتب لها أن تكون أسماؤها من بين المكنون في السرّ. وحده الله يعلم متى يأتي من نفق الفقد ذاك الممرّ. وللعوائل المنتظرة، ولكلّ الرفاق والمحبّين، خلجات واحتساب، وقطاف من نور لا ينقطع، بعد كلّ دمعة تُذرف وغصّة تُكتم، حينما يُقال: "هذا الشهيد لا يزال مفقود الأثر"! هكذا... يسمّونك، ولا أحد مثلك نلوذ به في دروب التعب من أيّامنا. بك نطرق أبواب الدعاء والرجاء، ونلمّ عند كلّ ذكر لك، أو صورة منك، لحظة انكسار ويوميّات تلهث فيها الحسرة.
إذاً، تسكننا أنت، ونتّكل على سرّك في أن تقف إلى جانب أوجاعنا، وترمّم كلّ خراب... يسمّونك "مفقود الأثر"، ولكنّك أنت الممرّ. نحن الذين لا نعرفك سوى بالاسم، وبالصورة، نستنجد بك، ونؤمن جدّاً أنّك قوّة روحيّة، وأنّك جوهر خفيّ من أجل جمال إضافيّ. فما حال البيت الذي يفتقدك؟! ما حال الأم والأب اللذَين يسردان لبعضهما بعضاً نغمة الشوق، ويحكيان كلّ يوم يطلّ دون نعشك، أنّك أنت طوافُ العمر نحو العمر؟ أنت مفتاح الله -السرّ- لا بدّ من ذكرك والتوسّل بك، فذلك يفتح الأبواب الموصدة، ويغسل تراكم العتمة داخلنا.
لا يحتاج هذا الأمر إلى رصف كلام، ولا نملك نحن مفردات التفسير لما هو أرفع من إحاطتنا. قضي الأمر وهذا الفقد قيمة، والقيمة معنى، والمعنى شيء محسوس. تلك هي أهمّ خيوط الروح.
•"مازن": فلذة "مليخ"
هل لي بالذهاب إلى الوديان الأولى التي ضمّدت جرح مجاهد، وانتقلت إلى آخر؟! عندما نزل الليل كان هو يغيب في الضوء ولا يغيب في العتم، ترك دمه على الصخر، وارتدى غيب سرداب، بحثوا عنه في كلّ الأرض، من أوّل ساعة بحثوا عنه، لكنّهم ما وجدوه، بكوا عليه، فهم ما تركوه، سقوه الماء، وضمّدوه، اطمأنّوا أنّه بخير، وما أدراهم بسرّ الأبرار، كان هو "مازن مقدّم"(2) فلذة "مليخ"، من بين الضلوع الأولى التي عانقت النور، أصيب في المواجهة، وأقسم على الحسين عليه السلام أن يشمله بحضن فيه رائحة أمّه الزهراء عليها السلام. هذا الذي حصل، منذ العام 1989م، و"مازن" شهيد مفقود الأثر.
•الشهيد علي دقيق(3): شرف اللقب الجديد
أذكر أنّي لمحتك مرّة واحدة، كانت المناسبة كريمة، خلال زيارةٍ للرؤوف الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام.
ناداك والدك الذي أعرفه صديقاً لأحد الشهداء القادة، أقبلتَ نحوه مشرقاً. بلى، أذكر تلك الإشراقة التي كانت تُزهر في محيّاك. يومها ألقيت سلامي سريعاً على والدك ومشيتُ، ليتني كنت قد ألقيتها عليك. فلم تكن إلّا أسابيع قليلة فقط، ودخلت لائحة الأنوار. استشهدتَ في سوريا في معركة الدفاع عن المقدّسات عام 2015م، عاد منك شرف اللقب الجديد: الشهيد "علي شفيق دقيق"، عاد الألق وبقي الجسد.
مفقود يا شهيد. هنا المشهد عُزف في روضة الحوراء زينب عليها السلام في الغبيري.
•الشهيد علي حطّاب(4): يا أمير النصر
كان صوته مفعماً بالكبرياء، تنصبّ فيه ثقة رجل سبعينيّ، اكتسى من الحياة قوّةً وقامةً لا تزال عامرة، وكلاماً مطرّزاً بمعاني العزّة. من بين أضرحة الشهداء، يمتدّ صوته في المكان كلّه. يحتلّ المسامع ويسطو على أيّ فكرةٍ يحاول أيّ زائر أن يقوم بها. ينطق بكلامٍ يجعلك تجمد مكانك، ولا تبادر إلى فعل أيّ شيء، سوى أنّك تريد أن تصغي إليه. الصوت يدفعك لتبحث في كلّ الزوايا؛ لتعرف من هو صاحبه؟ أين يجلس؟ أيّ شهيدٍ هو ابنه؟
مرّ وقت وهو يحاكيه: "يا عليّ، يا أميراً من أمراء النصر... يا عليّ، يا مجاهد، يا بطل... هنيئاً لك كلّ قطرة دم، وهنيئاً لي ما أعطُيت...". مساحة مهيبة من كلام أنيق واثق، يبثّ في النفس مشاعر الاعتزاز لا محالة.
مرّ وقتٌ وأنا أصغي إليه، يعلو الصوت، وعبثاً تمكّنتُ من اكتشاف مكان جلوسه. اقترب أحدهم ليقرأ الفاتحة للشهيد حسن عبد الله حيث كنت أجلس، استأذنته وسألته عن هذا الحاجّ والد الشهيد. تبيّن أنّه يأتي كلّ خميس، يفرش مصلّاه في المكان نفسه، يقرأ القرآن، ويكلّم ابنه على هذا النحو، كما لو أنّه أمامه يراه ويسمعه. منذ سنوات وهو يفعل هذا.
الأب مكتمل الإحساس بالفخر، والابن الشهيد "علي حطّاب" مفقود الأثر.
•بانتظاركم يوماً
لم يعد المشهد ينتمي إلى المألوف من مشاهداتنا، لا الحياتيّة ولا حتّى الجهاديّة، ولا إلى حكاية لها أوّل ولها آخر. "شهيد مفقود الأثر" خرج من هذه الدائرة كلّيّاً، ومضى بعيداً صوب التجلّيات، صوب فكرة تشبه الأصوات البعيدة التي تأسرك، دون أن تفهم ما يُقال، لكنّك تشعر أنّها ترتّب شيئاً ما في داخلك، تردّك إلى عمرك الذي تحبّ أن تعيشه، وتخبرك أنّ الحنين هنا يحطّ في أصعب حالاته؛ لأنّه قفز بعيداً من فوق سور الغياب، وحطّ على مدار الوقت عند عتبة الانتظار.
"شهيد مفقود الأثر"... بلا منازع هو من أجمل الحبكات التي كتبها الدم فوق التراب، وعاد إلينا منها بريحٍ مستشهد، وأبقى على القميص.
... أمّا بعد
فإنّ الفقد الجالس بين يدي الله ليس بفقد. أجمل الحكايات عندما يصبح الغياب وصيّة، والحنين مسار نبض بلا مواقيت، وجذبة الدمع فرصة. وتصبح "إنّي آنست ناراً" هي الرفيق.
ستعودون يوماً.
وسننتظركم بلا نعوش.
ما حاجة القلب، إن لم يُدفن فيه أثر من يحبّ؟!
1.الشهيد حسن عزّ الدين "ذو الفقار"، استشهد بتاريخ 24/11/2013م.
2.الشهيد مازن مقدّم "مهدي"، استشهد بتاريخ 8/1/1989م.
3.الشهيد علي دقيق "أمير علي"، استشهد بتاريخ 16/6/2016م.
4.الشهيد عليّ حميد حطّاب "أبو زين"، استشهد بتاريخ 25/5/2015م.