الجنّ نوع من الخلق مستوردون في حواسنا يصدق القرآن الكريم بوجودهم ويذكر أنّهم بنوعهم مخلوقون قبل نوع الإنسان، وأنّهم مخلوقون من النار كما أنّ الإنسان مخلوق من التراب قال تعالى: ﴿وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾ وأنّهم يعيشون ويموتون ويبعثون كالإنسان. قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴾.
وإنّ فيهم ذكوراً وإناثاً يتكاثرون بالتوالد والتناسل، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾.
وأنّ لهم شعوراً وإرادة وأنّهم يقدرون على حركات سريعة وأعمال شاقّة كما في قصص سليمان عليه السلام وتسخير الجن له وقصّة ملكة سبأ. وأنّهم مكلفون كالإنسان، منهم مؤمنون ومنهم كفار، ومنهم صالحون وآخرون طالحون، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وقال تعالى: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ وقال: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ . وقال: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾
وقال تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ ، إلى غير ذلك من خصوصيات أحوالهم التي تشير إليها الآيات القرآنية.
ويظهر من كلامه تعالى أنّ إبليس من الجن وأن له ذريّة وقبيلاً، قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾. وقال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُون﴾َ
وأمّا الجانّ فهل هو الجن بعينه أو هو أبو الجن كما أنّ آدم عليه السلام أبو البشر كما عن ابن عباس أو هو إبليس نفسه كما عن الحسن أو الجان نسل إبليس من الجن أو هو نوع من الجن كما ذكره الراغب.
أقوال: مختلفة لا دليل على أكثرها.
والذي يدي إليه التدبّر في كلامه تعالى إنّه قابل في هاتين الآيتين الإنسان بالجان فجعلهما نوعين اثنين لا يخلوان عن نوع من الارتباط في خلقتهما، ونظير ذلك قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾
ولا يخلو سياق ما نحن فيه من الآيات من دلالة على أنّ إبليس كان جاناً وإلاّ لغى قوله: ﴿وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾ الخ، وقد قال تعالى في موضع آخر من كلامه في إبليس:﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾
فأفاد أنّ هذا الجان المذكور هو الجن نفسه أو هو نوع من أنواع الجن ثم ترك سبحانه في سائر كلامه ذكر الجانّ من أصله ولم يذكر إلاّ الجنّ حتّى في موارد يعمّ الكلام فيها إبليس وقبيله كقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ وقوله: (وحقّ عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) وقوله: (سنفرغ لكم أيها الثقلان – إلى أن قال – يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا).
وظاهر هذه الآيات من جهة المقابلة الواقعة فيها بين الإنسان والجان تارةً وبين الإنس والجن أخرى أنّ الجن والجان واحد وإن اختلف التعبير.
وظاهر المقابلة بين قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ﴾ الخ، وقوله: ﴿وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ﴾ الخ، أن خلق الجان من نار السموم المراد به الخلق الابتدائي وبدء ظهور النوع كخلق الإنسان من صلصال؛ وهل كان استمرار الخلقة في أفراد الجان المستتبع لبقاء النوع على سنة الخلق الأول من نار السموم بخلاف الإنسان حيث بدء خلقه من تراب ثمّ استمر بالنطفة؟ كلامه سبحانه خالٍ من بيانه ظاهراً غير ما في بعض كلامه من نسبة الذرية إلى إبليس كما قال: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي﴾ونسبة الموت إليهم كما في قوله: (قد خلت من قبلهم من الجن والإنس)، والمألوف من نوع فيه ذرية وموت هو التناسل والكلام بعد في هذا التناسل هل هو بسفاد كسفاد نوع من الحيوان أو بغير ذلك؟
وقوله: ﴿وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ﴾ مقطوع الإضافة أي من قبل خلق الإنسان والقرينة هي المقابلة بين الخلقين.
وعد مبدأ خلق الجان في الآية هو نار السموم لا ينافي ما في سورة الرحمن من عدّه مارجاً من نار أي لهيباً مختلطاً بدخان فإن الآيتين تلخصان أن مبدأ خلقه ريح سُموم اشتعلت فكانت مارج نار. فمعنى الآيتين: أقسم لقد بدأنا خلق النوع الإنساني من طين قد جفّ بعد أن كان سائلاً متغيراً منتناً، ونوع الجان بدأنا خلقه من ريح حارّة حادّة اشتعلت فصارت ناراً.
* هل أسلم الجان؟
في المجمع روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم. قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأُرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلاّ من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها.
فمرّ النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم وقالوا: ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ .
وروي عن علقمة بن قيس قال: قلتُ لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجن؟ فقال: ما كان منّا معه أحد فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة فقلنا: اغتيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقينان مقبلاً من نحو حراء فقلنا: يا رسول الله أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال لنا: إنّه أتاني داعي الجن فذهبت أقرؤهم القرآن فذهب بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم فأمّا أن يكون صحبه منا أحد فلا.
وفي الاحتجاج عن عليّ عليه السلام في حديث فأقبل إليه الجن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بطن النخل فاعتذروا بأنّهم ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً، ولقد أقبل إليه واحد وسبعون ألفاً منهم فبايعون على الصوم والصلاة والزكاة والحج والجهاد ونصح المسلمون فاعتذروا بأنّهم قالوا على الله شططاً.