الإمام الخامنئي: التطوير والتحصين..
يوسف الشيخ
في العدد ما قبل الماضي تحدثنا عن الأسس والدعائم التي أرساها الإمام الخميني قدس سره للوظيفة الثقافية للإعلام الإسلامي. في هذه الحلقة نتابع ما قام به الإمام الخامنئي في هذا المجال.
رغم أنّ البحث يطول في عملية عرض الوظائف الثقافية للإعلام الإسلامي إلاّ أنّنا نسعى من خلال هذه المقاربة إلى تكثيف الضوء على بعض ملامح هذه الوظيفة من خلال فكر فذ واكب عملية البناء وأشرف على صياغة هياكلها التنفيذية منذ انتصار الثورة الإسلامية المباركة وكان له دور أساسي في رسم استراتيجيات الثقافة منذ تعيينه رئيساً للمجلس الأعلى للثورة الثقافية بعيد الانتصار عنيت به نائب الإمام المعصوم عجل الله فرجه الشريف الإمام الخامنئي (المفدّى)..
لقد زخرت حياة الإمام الخامنئي (دام ظله) بتجارب وخبرات كبيرة ومنذ اللحظة الأولى لانطلاقة الثورة الإسلامية المباركة في الستينات كان القائد المفدّى ضمن أقرب الدوائر التي شاركت الإمام الخميني(المقدس) في مواجهة النظام الشاهنشاهي البغيض. فتعرض لامتحانات كبرى ولابتلاءات شتى من قبل أعوان الشاه (الإعتقال – النفي – الإقامة الجبرية – السجن لفترات طويلة – التعذيب – التشهير)..
ورغم كلّ هذه الضغوط فقد استمرّ يؤدّي تكليفه الجهادي في السجن وخارجه ويمارس إلى جانبه واجبه الفكري في الجامعات والمنتديات وفي الحوزة العلمية في قم، وكان يرى أنّ وسائل التوعية العقائدية القائمة على أسس الثقافة الإسلامية الأصيلة التي تسرع بعملية الصراع ضدّ نظام الاستبداد الشاهنشاهي العلماني وتعجل بانهيار الأساس الذي يرتفع فوقه عرش الطاووس وتدفع في نفس الوقت بأبناء الأمة إلى الإلقاء بكلّ ثقلها المادي والمعنوي لإسقاط النظام الفاسد واستبداله بواقع سياسي واجتماعي مبني على أسس العقيدة الإسلامية.
وبعيد انتصار الثورة وكونه كان ثقة الإمام الخميني (المقدس) والوجه الأبرز لثقافة الإسلام المحمدي الأصيل تولى القائد الخامنئي (المفدّى) مواكبة عملية أسلمة المؤسسات الثقافية وتأصيلها وتحصينها وكان من المتصدين الذين كان لهم إسهامات جلّى في المجالات الثقافية والإعلامية الشتّى رغم الوظائف المتعدّدة التي كان يشغلها (نائب وزير الدفاع – أول قائد للحرس الثوري – إمام جمعة طهران – نائب مشهد في مجلس الشورى – رئيساً للجمهورية – رئاسة مجلس تشخيص مصلحة النظام – رئاسة مؤتمر أئمة الجمعة والجماعة – وغيرها)..
وبعد عروج الإمام الخميني (المقدس) إلى بارئه أدار خليفته المعظم الإمام الخامنئي دفة سفينة الثورة باقتدار واستطاع بفكره الثاقب ونفسه الزاكية حمل الإرث الثقيل والسير بحركة الإسلام المحمدي الأصيل بقوة على طريق التكامل رغم ضراوة الحملات التي شنت على خط ولاية الفقيه والتي تزامنت مع انهيار كامل للمنظومة الشيوعية ومع حرب غربية شاملة على الإسلام.
ولقد كانت ميزة العلاقة الخالصة التي طبعت مسيرة الإمام الخميني(المقدس) بينابيع الإسلام هي الميزة التي تواكب الإبداع المسدّد للإمام الخامنئي (دام ظله) في شتّى مجالات الحياة.
فكانت خطوات السلف والخلف تعبر عن عظمة الإسلام واستمراريته في المسير التكاملي الذي سكن في عصر الغيبة الكبرى وجاء أصل ولاية الفقيه العقائدي والتشريعي ليعيده إلى الحركة والسمو والارتقاء على يد المؤسّس العملي الإمام الخميني قدس سره، وقد مثلت قيادة الإمام الخامنئي (دام ظله) للأمة واحدة من الخصائص الفريدة لمبدأ ولاية الفقيه، ضمن الاتجاهات التالية:
- حفظ استمرارية خط الإمام وضمانها وصيانتها من التحريف...
- تحريك عوامل كامنة منعت الحرب المفروضة (80-88) الاستفادة منها.
- تأكيد حضارية الهوية الثقافية للثورة الإسلامية عبر الاستفادة من الخبرات والتجارب وتشجيع روح التجديد الذي أطلقه المقدس الراحل الإمام الخميني العظيم منذ بداية انطلاقته المظفرة..
وقد يقول قائل إنّ مجال البحث لا يستوجب هذه المدخلية الطويلة، والرد على هذا القول بسيط ومختصر ولكنّه جوهري وهو: "أنّ الثورة تعرضت لحرب إعلامية شرسة هدفت إلى تشويهها وتحريفها وإطلاق آلاف الشبهات حول مضامينها وأبعادها الفكرية والحضارية فكان لا بدّ من هذه المقدمة للولوج إلى أسس البحث ولا سيما أنّ بعض الشبهات التي طرحت كادت أن تكون خطيرة لولا تصدّي القائد الخامنئي نفسه والمخلصين من عشاق خط الإمام الخميني(المقدس).
وانطلاقاً من وظائف الثقافة، عموماً لقد عبّر القائد الخامنئي (المفدى) في واحدة من أهم توجيهاته خلال زيارته – في شهر رجب 1416 ه – لمدينة قم المقدسة ولقائه بعلماء ومدرسي وطلاب حوزتها العلمية عن مبدأ عملية التطوير والتجديد في الفكر والثقافة الإسلامية حيث أكّد "أنّ عملية التطوير هي من أصعب الوظائف فلا يكفي المحافظة فقط على ميراث السلف يسلم إلى الجيل الجديد لأن التوقف في نفس المكان هو في حد ذاته عودة إلى الوراء".
وأشار إلى السبب هو أن "الأفق الذهني لكلّ علم بلحاظ حجم المفاهيم اللازمة له يجب أن يبلغ الكمال".
ويورد القائد أمثلة عديدة على ذلك منها مثلاً: "أنّ علم الكلام بدأ يتحول إلى علم منسوخ.. وغالبية الهجوم تأتي اليوم من جانب المباحث الكلامية.
... أعزائي هناك اليوم شبهات جديدة وخطيرة، فقد انتهت الشبهات القديمة ولم يعد أحد يطرح مثلاً شبهة ابن كمونة، بل احتل محلها شبهات كبيرة في جميع المجالات الكلامية بدءاً من أصل موضوع إثبات الصانع والنبوة العامة والخاصة ومسألة الولاية إضافة إلى مسائل متعدّدة في المجال الديني والإسلامي".
وبعدما يعرض لضآلة المنتوج المضاد للشبهات يؤكد على وظيفة المتصدين ووظيفتهم الشرعية متسائلاً: "من سيتحمل أمام الله مسؤولية أيتام آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين يقفون عزلاً أمام هذه الأمواج الهادرة من الشبهات، ويرى أنّ التصدي يجب أن يستتبع بتوسع النثر في هذه المجالات".
انطلاقاً من هذا المنهج استطاع سماحة القائد المفدّى رسم وتفسير مجموعة من المبادئ التي أرسى عليها الإمام الخميني قدس سره النظام الإسلامي بشقيه الإعلامي التعبوي والثقافي الحضاري.
وسوف يجد الباحث عندما يسبر غور طروحات هذين العظيمين تكاملاً فريداً في إنضاج نظرية الإعلام الإسلامي وتوجهاته وآفاقه الاستراتيجية.
ولقد أكّد القائد الخامنئي في أكثر من مناسبة عبر البحث المكتوب أو البيان أو الخطاب على خصوصية الينابيع المعرفية التي تغذي منطلقات الإعلام الإسلامي الأصيل والوظائف الناتجة عن فهمها الصحيح من خلال:
أ- المحافظة على الارتباط بالله (عبر القرآن وأهل البيت) (السف الصالح).
ب- التصدي للتضليل والتحريف والتشويه.
ج- الارتقاء بمستوى الإعلام والثقافة لعرض وتوضيح المفاهيم والقيم السامية.
د- نشر الإسلام بل الوسائل المتاحة والاستفادة من تطور تقنيات الإعلام لإشباع العالم المتلهف لمعرفة الحقيقة.
وسوف نعرض للوظائف الأربع السالفة لنقدم بعضاً من توجيهات القائد في هذا المجال:
أ- المحافظة على الارتباط بالله وأهل البيت والسلف الصالح:
يرى الإمام القائد (دام ظله) أن من أولى واجبات الثقافة والإعلام الإسلاميين هو بث نور الفضيلة والتوحيد وإشاعة منهج الأنبياء والأوصياء والاهتداء بأهل البيت (عليهم السلام) ويؤكد في هذا المجال ضرورة ربط النهضة الإسلامية بقضية عاشوراء وعرض قيمها الإنسانية الطاهرة والصبر والإيثار ومقاومة الظالم.
ويرى أنّه "يمكن للحسين بن علي عليه السلام أن يحرّر العالم شريطة أن لا يطال التحريف قضيته" وثمّة حيّز كبير في خطاب القائد للدروس المعبّرة المأخوذة من أهل بيت العصمة عليه السلام وإشارة إلى ضرورة الاستفادة منها ومن تجربتهم مدللاً على أهمية وعظمة تراث الإمام الخميني قدس سره وسيرته الذاتية كمصداق ينبغي الاستفادة منه.
ب- التصدي للتضليل والتحريف والتشويه:
ولعلّه من الأهمية بمكان أن نعرض إلى أنّ القائد له قراءات تاريخية معمقة وإشارات هامة في التحقيق التاريخي وانطلاقاً من هذا الإطلاع الواسع يرى أنّه من الضرورة ضلوع كلّ المدافعين عن الفكر الإسلامي الأصيل في عملية التصدي لأيّ محاولة لتحريف التاريخ الإسلامي بدءاً من سيرة السلف وخصوصاً واقعة عاشوراء التي تمثل في وجدان الأمة عنصراً روحياً أساسياً في الجهاد والثورة. ويرى أنّه وفي نفس الأهمية التي يجب فيها المحافظة على التاريخ الإسلامي ينبغي التصدي لأيّ محاولة تحريف لتاريخ الثورة الإسلامية. مشيراً إلى أنّ الأعداء سيكلفون "كتّاب التاريخ المأجورين بتلويث الحقائق والوقائع التاريخية التي تخصّ الثورة الإسلامية ورش غبار التزوير على وجه تلك المرآة الصافية لجعله مشوهاً كدراً".
ويعرض مثلاً قريباً حديث العهد بالقرن العشرين قائلاً: "وهذا هو العمل الذي قام به المتأثرون بالغرب والشرق في هذا القرن بالذات هذه النهضة المشروطة "المشروعة". فحرموا الناس من جني ثمار تلك الحقائق التاريخية لهذه الثورة الإسلامية مئة في المئة والتي جرت إلى الإنحراف منذ بدايتها.
ج- الإرتقاء بمستوى الإعلام والثقافة لعرض وتوضيح المفاهيم والقيم السامية:
وفي هذا المجال يمكننا أن نقول إنّ القائد صاحب مدرسة عالمية في تأكيد أهمية الثقافة والإعلام الإسلامي في عملية الارتقاء بالقيم... وهو إذ يعتبر أن العالم متلهف لمعرفة الحقيقة، يرى أن الثقافة السائدة الآن وغيره هي "ثقافة منحطة". ويشير في إحدى خطبه إلى أن "الثقافة المنحطة هي الإعلام الذي يصور المستضعفين أنّهم فئة غير واعية، ويرى أنّه في الواقع تعاني المجموعة الدولية كلها من أزمة أخلاقية، ويرى بأن ضعف العالم "الثالث" ناشئ مباشرةً ودونما واسطة من ضعف أخلاقي وثقافي في الواقع...
وكان قد أشار منذ زمن طويل وفي خطاب ألقاه في أحد مؤتمرات حركة عدم الانحياز إلى أن الحركة مكلفة: "بتدوين منهج سياسي وثقافي واقتصادي لإدارة العالم والاتجاه نحو هدف جديد وذلك بفتح جبهة ثقافية قيمية بوجه الدول الفاتحة في الحرب العالمية الثانية (التي تدير الآن وترعى قيم وأسس أحكام المنظمات الدولية). ويرى القائد "أن حركة التاريخ المتجهة نحو تكامل المعنويات الإنسانية تثبت إستحالة بقاء البشرية في مستنقع الجهالة، فالأخلاق الفاضلة تدفع بالبشرية إلى مكافحة الظلم والاستغلال وكل ما يبعد عن العدالة ويؤدي إلى إقامة نظام جديد في العلائق الاجتماعية على قواعد عادلة" لأنّه لا يمكن في رأي القائد مقاومة الحقائق المعنوية بأي من المفاهيم الدولية، فالقيم الإسلامية هي أفضل الحقائق قدرة على إستحالة الإنسان وإجباره على احترامها.
د-نشر الإسلام والإستفادة من التطوريات التقنية في مجال الإعلام:
يولي سماحة القائد المفدى أهمية كبيرة لتقنيات وأساليب نشر الإسلام المحمدي الأصيل وهو إذ يعتبر أنّ التبليغ من أهم واجبات نشر الإسلام يرى في التبليغ علماً ينبغي أن يستفيد من أساليب النشر كافة، إذ يعتبر عدم التطور والتوسع على صعيد التبليغ والنشر "من أشكال القصور فإصدار الكتب والصحف والمجلات واستخدام الموجات السمعية والبصرية لا يتمّ بالقدر الكافي ويؤكّد ضرورة الإستفادة من عالم الكمبيوتر وشبكة الإنترنت الدولة لنقل العلوم والمفاهيم الإسلامية كافة من هذا الجانب من العالم إلى الجانب الآخر...
وقد أشرف سماحة القائد شخصياً على مشاريع جبارة في هذا المجال بداءً من مركز نور للنشر الإلكتروني الذي أصبح يحتل حيزاً هاماً من صفحات شبكات الكمبيوتر العالمية وبأكثر من لغة...
فضلاً عن المجتمع العالمي للبحوث القرآنية.. وعشرات المشاريع الأخرى بدءاً من المناظرات العقائدية والفلسفية مروراً بالاستفسارات الفقهية والمواضيع العرفانية والقرآنية والتاريخية. وهناك خطوة لوضع كل تراث وتاريخ الثورة الإسلامية في متناول الجمهور، وثمة رؤى عديدة قدمها القائد في طرح مفهوم فلسفي جديد للسينما التي تعكس المعنويات والقيم السامية وتقدمها كحقائق تربوية. إنّ وظيفة القيادة الإلهية لم تمنع المؤسس الراحل الخميني العظيم ولا الخليفة المسدد الإمام الخامنئي المفدّى من متابعة دقيقة للإعلام والثقافة الإسلامية وترشيدها وتأسيسها تأكيداً لوظائف المتصدين للكتابة والبحث والنشر، وما هاتان العالجتان إلاّ محاولة لرصد بعض فكر الثورة الإسلامية وقائديها الفذين والواجب يقتضي البحث أكثر.